المصدر الأول لاخبار اليمن

التاريخ يتكرر.. هكذا حاصرت أبوظبي والبحرين قطر قبل 150عاما

    تقرير وثائقي: وكالة الصحافة اليمنية يُروى أن آل خليفة حُكَّام البحرين استدرجوا ابن حاكم قطر وولي عهده الأمير قاسم بن محمـد آل ثاني بمكيدة عقب ثورة الدوحة على ظلم آل خليفة، وذلك بهدف تسكين الأجواء، والعودة إلى السلام والوئام، فانطلق قاسم دون خوف إلى المنامة، لكن ما أن حط رحاله بها سنة 1867م […]

 

 

تقرير وثائقي: وكالة الصحافة اليمنية

يُروى أن آل خليفة حُكَّام البحرين استدرجوا ابن حاكم قطر وولي عهده الأمير قاسم بن محمـد آل ثاني بمكيدة عقب ثورة الدوحة على ظلم
آل خليفة، وذلك بهدف تسكين الأجواء، والعودة إلى السلام والوئام، فانطلق قاسم دون خوف إلى المنامة، لكن ما أن حط رحاله بها سنة
1867م إلا وغدر به آل خليفة وألقوه في السجن، فجاء خبر اعتقال الشيخ قاسم بن محمـد بن ثاني إلى قطر، فضجّت قبائلها، وثار الدمُ
في عروق رجالها، لا سيما آل ثاني والنعيم وغيرهم على هذا التصرف المشين، وأجمعوا أمرهم على مهاجمة البحرين لفكّ أسر زعيمهم
الشاب الذي أنجدهم من قبل، ووقف بشجاعة متحديا السلطة الغاشمة لآل خليفة في بلدهم، وأقلعوا إلى البحرين في سفنهم وهم يرددون:

حُرِّم عليك الصلحِ منا *** ما دام قاسِم في الحديد

لا بد ما تارِد سفنّا *** بالسيفِ مصقول الحديد!

(النبهاني في “التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية”)

في الزبّارة كانت الحكاية!
كانت قطر ولوقت طويل ترتبط مع شبه جزر البحرين وساحل الأحساء بتاريخ مشترك منذ دخول الإسلام لهذه المناطق، وتبعيتها لمقر الخلافة
الإسلامية سواء في الحجاز أو الشام أو بغداد إلى أن تمكن القرامطة من تخريب عاصمة تلك المناطق “هجر” عندما استولوا عليها، وبنوا
مدينة “الأحساء” التي جعلوها عاصمة جديدة للمنطقة.

تتابع على حكم منطقة الأحساء كل من العيونيين وآل زامل الجبري وآل مغامس، إلى أن جاء البرتغاليون فاحتلوها نحو عام 1517م وظلوا
يسيطرون عليها حتى جاء الأتراك العثمانيون وطردوهم منها في أواسط القرن السادس عشر، ومنذ سيطر العثمانيون على المنطقة ارتبطت
الأحساء وقطر والبحرين بتاريخ سياسي واحد إلى أن انفصلت عنها “جزيرة أوال” التي استقلت باسم البحرين.


انهارت قبضة العثمانيين على شرق الجزيرة العربية منذ عام 1670م؛ لينفرد بنو خالد بحكم المنطقة، حيث استطاعوا تأسيس سلطة قوية
في إقليم الأحساء امتدت من حدود ولاية البصرة شمالا وضمت مناطق الكويت والأحساء وقطر والبحرين، وقد أعلن الخوالد ولاءهم في الوقت
ذاته للدولة العثمانية لكن تغير هذا الوضع حين هزم الوهابيون في الدولة السعودية الأولى بني خالد فخضعت الأحساء والبحرين وقطر
للسيادة السعودية، ولكنهم لم يمارسوا السلطة المباشرة على قطر وقبائلها وكذا البحرين، وإنما كانوا يعتمدون على “آل مسلم” التي
كانت تتخذ الحويلة مركزا لها، وقد عهد إليهم أمير الأحساء بجمع الخراج السنوي من سكان قطر لإرساله إلى الأحساء فكانوا يتدخلون في
سياسة قطر وتصريف شؤونها.

نتيجة لبروز قوة الدولة السعودية الأولى وضعف قبضة بني خالد على شرق الجزيرة العربية بدأت أعداد من القبائل العربية من نجد
والمناطق المتاخمة للكويت في الهجرة إلى مناطق جديدة لا تشملها التوترات الحاصلة، وبعيدا عن القحط الذي كان قد ضرب مناطقهم في
نجد وغيرها، فانتقل آل خليفة، وهم فرع من العتوب، إلى منطقة الزبارة على الساحل القطري المواجه للبحرين منذ سنة 1766م سعيا
لطلب الرزق، فاستقر العتوب بقبائلهم الثلاثة المعروفة: آل خليفة يقودهم الشيخ خليفة بن محمد، وآل صباح يقودهم الشيخ سليمان بن
أحمد، وآل الجلاهمة ويقودهم الشيخ جابر بن عتبة، وكان سكنهم في الزبارة بموافقة ومعية آل مُسلم وضيافتهم.
على أن صعود نجم آل خليفة في هذه المنطقة بسبب مصاهرتهم لآل علي في قطر، وتقربهم من السكان بشرائهم لمحاصيل اللؤلؤ، جعل العلاقة
بين آل مسلم وآل خليفة تتجه نحو التوتر، لذا جعل الشيخ محمد بن خليفة يحصّن نفسه في الزبارة ويحصن المدينة وبنى فيها قلعة ”
المرير” عام 1768م استعدادا لأي هجوم مباغت من آل مسلم نواب بني خالد ثم السعوديين، وكان بقاء آل خليفة في قطر لا يتعدى ميناء
ومدينة الزبارة، أما بقية شبه الجزيرة القطرية فكانت تقطنها مجموعات قبلية أخرى أهمها المعاضيد الذين تنتمي إليهم أسرة آل
ثاني والبوكوارة والمنانعة والبوعينين وآل بن علي وغيرهم ممن تركزوا في البدع “الدوحة الآن” والوكرة والحويطة وخور حسان.

آل خليفة يحتلون البحرين
هكذا قوي مركز آل خليفة في الزبارة وازدهرت تجارتهم وكثرت أموالهم، لكن كانت العلاقة بينهم وبين آل مذكور حُكام البحرين
الخاضعين للاحتلال الفارسي حينذاك تسودها شائبة التعصب بسبب الاختلاف المذهبي بين الفريقين، فآل خليفة من السنة وأولئك من الشيعة،
وكانت التجارة بينهم تسودها العداوة والبغضاء، بل “كان البحارنة يضطهدون تجار آل خليفة ويحتقرونهم عندما كانوا يقصدونهم”[4].
وترتب على ذلك اعتداء البحارنة على أحد أتباع آل خليفة وتطور الأمر إلى قتله، فهب آل خليفة للأخذ بالثأر وقتلوا المعتدي وخمسة
أشخاص آخرين، فتدخل حاكم البحرين نصر آل مذكور عامل الفرس على البحرين التي كانت تخضع للاحتلال الإيراني؛ لذا انطلق نصر على رأس
حملة عسكرية بحرية انطلقت من البحرين ونزلت على ساحل قطر، لكن آل خليفة كانوا مستعدين لذلك الحصار البحريني الذي أطبق عليهم
شهرا كاملا حتى أنقذهم منه آل علي سكان فريحة الواقعة شمال الزبارة، فانهزم البحارنة وفروا هاربين حتى وصولوا إلى بوشهر لطلب
النجدة من الإيرانيين.
استغل أحمد آل خليفة هذا الاندحار وانطلق بمساعدة من بعض قبائل قطر الكبيرة مثل الجلاهمة إلى البحرين التي رأى فيها الفوضى تعم
أرجاء الجزيرة بسبب هزيمة نصر، فكانت الفرصة مواتية للسيطرة على البحرين خاصة بعد مقتل نائب نصر آل مذكور على يد آل خليفة،
فاستسلمت الجزيرة لأحمد آل خليفة في عام 1783م الذي عُرف منذ ذلك الوقت بالفاتح وانتقلت من السيطرة الفارسية إلى سيطرة آل
العتوب من أسرة آل خليفة، وبقيت البحرين والزبارة تابعتين لحكم آل خليفة حتى وفاة أحمد آل خليفة في 1794م وحين قرر ولي عهده
سلمان بن أحمد الانتقال نهائيا والاستقرار في البحرين.

استطاع آل خليفة بعد ضعف قبضة السعوديين وسقوط دولتهم مد نفوذهم من حين لآخر إلى قطر، لا سيما الساحل الآخر منها في الدوحة، وبعد
مواجهات كثيرة مع الجلاهمة وزعيمهم رحمة بن جابر الذي أذاق سفن العتوب الويلات بهجماته البحرية، هؤلاء الذين تنصّل لهم آل خليفة
ولم يعترفوا بفضلهم في فتح البحرين معهم، وحين قام المقيم السياسي البريطاني في الخليج “ماكلويد” في يناير/كاون الثاني 1823
بأول زيارة له إلى الدوحة خلال قيامه بجولته على طول ساحل الخليج العربي وجد أن قبائل الدوحة من آل بوعينين لا ترفع أعلام
المعاهدة التي وقعتها بريطانيا مع البحرين سنة 1820م، بما يعني أن سيطرة آل خليفة على قطر كانت ضعيفة وغير واضحة رغم محاولاتهم
المتكررة ملء فراغ سقوط الدولة السعودية الأولى على هذه المناطق.
عاود السعوديون تقدمهم حين قامت الدولة السعودية الثانية على كتف تركي بن عبد الله آل سعود وابنه فيصل، فاستطاعوا السيطرة على
مناطق شرق الجزيرة العربية وأعادوا إخضاع البحرين وقطر لسيادتهم، لكنهم لم يحكموها حكما مباشرا، واكتفوا بقبول الزكاة
المفروضة على هذين الإقليمين، لكن في تلك الأثناء بدأت تنمو قوة القبائل المحلية القطرية وعلى رأسها أسرة آل ثاني لتلعب دورا
مهما ومصيريا في قطر، فلأول مرة يقف هؤلاء في وجه النفوذ البحريني الذي امتد من الزبارة إلى الدوحة.

حصار أبوظبي والبحرين
في بداية العقد الخامس من القرن التاسع عشر، وبعد ضعف قبضة السعوديين على البحرين، وقعت حرب أهلية داخل أسرة آل خليفة على حكم
البحرين، ولجأ أحد الطرفين محمد بن خليفة إلى القطريين وعلى رأسهم محمد بن ثاني والمعاضيد وعيسى بن طريف شيخ آل علي المقيمين
في الدوحة، فضلا عن رحمة بن جابر زعيم الجلاهمة، وبمعاونة هؤلاء استطاع محمد إخضاع البحرين في أبريل/نيسان 1843م، وعرف الفرع
المنتصر من آل خليفة الفضل للقطريين في وصولهم إلى الحكم برغم الخلافات الداخلية التي استمرت حتى عام 1850م، حينها خضع الجميع
لسلطة فيصل بن تركي آل سعود ما عدا آل خليفة في الساحل الغربي من قطر والبحرين، ونتيجة لبروز قوة محمد بن ثاني وابنه جاسم
وتحالفهم مع الأمير فيصل آل سعود ومحاولتهم الفاشلة لغزو البحرين والتي أسفرت عن هزيمة “مسيمر”، قرر آل خليفة الدخول في صدام
مع آل ثاني والقضاء على نفوذهم المتنامي، وتوجهوا إلى حلفائهم من حكام بني ياس في أبوظبي بقيادة سعيد بن طحنون الفلاحي الذي
استغل الفرصة وقَبِل الدخول في هذا التحالف، وتجمع الفريقان الظبيانيون والبحرانيون بسفنهم على حصار الدوحة الأول، وكان حصارا
بحريا شديدا مُنعت فيه المؤن عن المدينة، ولم يكن يأت المدد لسكان المدينة إلا من جهة الأحساء الخاضعة للحكم السعودي آنذاك.
كان قنّاصة آل خليفة ينزلون إلى الساحل نهارا فيترصدون سكان المدينة ويتبادلون وإياهم إطلاق النار، ثم يعودون إلى سفنهم مساء
ظنا منهم أن استمرار حالة الحصار يثير الثورة بين المحاصرين ويتألبون على الجيش السعودي وعندئذ يسهل غزو قطر، إلا أن الحامية
العسكرية السعودية التي أبقاها فيصل آل سعود ودفاع أهل الدوحة المستميت بقيادة آل ثاني قد أفشل هذه المحاولات المتكررة.

ومن ثم كان حاكم أبوظبي المشارك في ذلك الحصار سعيد بن طحنون قد ملّ من هذا الحصار الفاشل، فقرروا الانسحاب وتكلموا مع آل خليفة
في هذا الأمر، واللجوء إلى الصلح مع الأمير السعودي، وبالفعل وافقهم آل خليفة، وتوسط ابن طحنون، وبعد أخذ ورد اتفق آل خليفة على
أداء خراج سنوي قدره أربعة آلاف ريال فرنسي مقابل بقاء قطر تحت نفوذهم، فاستغل السعوديون الاتفاق بشكل آخر في صالحهم حيث عرضوا على
آل خليفة تخصيص ألف ريال سنوي من بيت مال القطيف شريطة اشتراك أسطولهم البحري مع السعوديين في غزو عُمان المرتقب، وبالفعل قَبِل
البحرانيون بقيادة الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة ذلك.

كان الوضع السياسي ما بين سنوات 1850م إلى 1866م يمثل خضوع أجزاء واسعة من قطر إلى نفوذ البحرانيين الاستبدادي، في المقابل
كان البحرانيون يخضعون من قبلهم إلى السعوديين الأقوياء، وظلوا يدفعون لهم أربعة آلاف ريال فرنسي كل عام على شكل إتاوة للحفاظ على
ممتلكاتهم في قطر والبحرين، لأجل ذلك كان للسعوديين وكيل في الدوحة يراقب سير الأمور والاتفاقيات السابقة[9].

الدوحة تستكشفُ زعماءها!
لم يكن أهل قطر وزعيم الدوحة الشيخ محـمّد بن ثاني يقبل بالتحكم البحريني في البلاد، لكن مع ذلك قبل القطريون ذلك لأسباب كانت
تتعلق بعوامل القوة والضعف، فأهل قطر كانوا في منتصف القرن التاسع عشر غير مترابطين في وحدة سياسية واحدة، الأمر الذي سهّل على
آل خليفة بسط نوع من النفوذ على شبه الجزيرة، لكنه ظل على الدوام يُقابل بالتمرد والرفض من قبائل قطر، ومنذ ذلك الحين بدأت
شخصية محمد بن ثاني وولده قاسم بالظهور، واللّذينِ سعيا إلى توحيد القبائل القطرية.

يُجمع المؤرخون على أن آل ثاني نجحوا في زعامة القبائل القطرية نتيجة مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، مع أنهم لم يكونوا أكبر
القبائل عددا، وأن جدّهم الأكبر “ثاني” من آل المعاضيد الذي وُلد في الزبّارة وأصبح من تجار اللؤلؤ المشهورين قد نجح في تكوين
ثروة كبيرة وأحرز مكانة اجتماعية مرموقة جعلته يأتلف القبائل القطرية، وقد انتقلوا إلى البدع “الدوحة” وصار لهم مع الوقت
نفوذهم ومكانتهم، وأن محمدا آل ثاني ابنه المولود في الفويرط قد تقلد زعامة الأسرة، وكان أهلا للدخول في التحالف مع القبائل
القطرية الأخرى وآل سعود بقيادة فيصل لإخضاع آل خليفة وهو ما نجحوا فيه بالفعل، الأمر الذي أبرز نفوذ محـمد بن ثاني لا سيما بعد
مقتل عيسى بن طريف وتشتت آل بن علي، كما كان له أثره في الروح الانتقامية لآل خليفة.

حين زار الرحالة والجاسوس البريطاني بلجريف قطر رأى محمـد بن ثاني “حاكم البدع (الدوحة بعد ذلك) الذي يعترف به الجميع رئيسا
للمنطقة كلها، مع أنه لا يملك سلطة كبيرة على القرى الأخرى التي يقوم سكانها بتدبير أمورهم مع رؤسائهم المحليين”، وقد وصفه بأنه
“داهية عجوز إلى حد ما، يشتهر بالحكمة وبساطة السلوك الذي يدل على خفّة ظلّه، وإن كان عنيدا عند المساومة، وهو رجل عملي في
المقام الأول، استطاع عن طريق الدراسة أن يحوز معرفة أدبية وشعرية، وقدرا من المعرفة بالطب.. كما أنه رجل متدين جدا يؤم الناس
في الصلاة في المسجد الكبير في معظم الأحوال”.

ومع ذلك ظل العداء بين القطريين وآل خليفة قائما، لا سيما وأن آل خليفة ظنوا أنهم بدفعهم الإتاوة السنوية المقدرة بأربعة آلاف
ريال إلى السعوديين ظنوا أنهم اشتروا قطر بقبائلها، فعينوا عليها ممثلا لهم هو أحمد بن محمـد آل خليفة الذي رغم مصاهرته مع آل
ثاني فإنه كان يتعامل معهم بالقسوة والتكبر والغلظة فنزلت كراهيته في النفوس، وفوق ذلك وفي عام 1866م اعتدى رجال على قافلة
لقبائل النعيم في سوق الوكرة تتجهز لرحلة غوص اللؤلؤ المعتادة فاستولوا على أمتعتها، وعندما قاومت أُرسل زعيم آل نعيم علي بن
ثامر إلى البحرين في قيده.

حين وصل رئيس قبائل النعيم إلى البحرين أمر حاكمها محمد بن خليفة أن يُرمى به في السجن، ويحكي لنا المؤرخ النبهاني تفاصيل تلك
الوقعة التي كانت السبب في اندلاع الخصومة الأعنف في القرن التاسع عشر بين القطريين والبحرانيين، والتي ترتب عليها حوادث خطيرة،
يقول: “لما جيء برئيس النعيم إلى البحرين سنة 1282هـ/1866م زُج به في السجن، فغضب لذلك قومه وتجاهروا بمناوأة حاكمهم، وفي سنة
1283هـ/1867م استنجدوا بالشيخ قاسم بن ثاني فأمدهم بجيش من الرجال قاده بنفسه للقبض على العامل (الشيخ أحمد بن محمـد آل
خليفة) وإخراجه من بلدهم، وكان الشيخ أحمد إذ ذاك بالوكرة وهي قصبة قطر، فلجأ إلى قلعتها، فشدّدوا عليه الحصار فيها حتى كادوا
أن يحتلوا القلعة، ولم تكن لدية قوة كاملة للدفاع فاضطر إلى الفرار… فتوجّه إلى الخوير وهو موضع في الطرف الشمالي من بر قطر،
وهناك أرسل يخبر الحاكم (البحرين) بما جرى”.

أرسل الشيخ محمـد بن ثاني خطابا شديد اللهجة إلى أمير البحرين محمـد بن خليفة يطلب منه عزل نائبه على قطر أحمد بن محمـد آل
خليفة، وإطلاق سراح زعيم آل نعيم الشيخ علي بن ثامر، وفوق ذلك منحهم استقلالا ذاتيا في إدارة شئوونهم وإلا فإنهم سيخلعون طاعته
ويلجأون إلى حاكم غيره، يقصدون بذلك السعوديون من أبناء فيصل الذين كانوا يتنازعون العرش في الرياض.

البحرين وأبوظبي يدمران الدوحة!
غضب حاكم البحرين بكل صلف من تجرؤ القطريين عليه، وكان يراهم أقل شأنا من التحدي، فقرر إرسال رسالة عاجلة إلى حليفه شيخ
أبوظبي زايد بن خليفة يطلب منه العون كما حدث سابقا للقضاء على النفوذ القطري المتزايد الذي يهدد الجانبين على المستويين
السياسي والاقتصادي، “فأنجده الشيخ المذكور بقوة كبيرة من الرجال على عدة من السفن الكبيرة” كما يذكر صاحب تاريخ “قلائد النحرين
في تاريخ البحرين”.

وأرسل محمـد آل خليفة أخو علي بن خليفة على رأس جيش كبير، فنزل الجيش في منطقة “أبو عمران” في قطر، ومنه سار البحرانيون
والظبيانيون نحو الدوحة “وهي بلدة الثائرين، حيث وضعوا فيهم السيوف على حين غفلة منهم حتى أخذلوهم وألجأوهم للفرار بأنفسهم
تاركين بيوتهم وأموالهم وتفرقوا شذرا وخربت تلك البلدة (الدوحة) وكانت هي قصبة قطر، لذا سميت هذه الحادثة خراب الدوحة الثاني
وذلك سنة 1283ه (1866م)”[14]. كان السبب الأبرز في هذه الجرائم أحمد بن محمـد آل خليفة، والذي لاحقه فلول آل نعيم الهاربين،
وأدركوه في موقع يُسمى (الحمرور)، لينهزم أحمد بل وقُتل في هذه المعركة، “وتفرق الجمعان متناصفين” كما يعلق النبهاني.

جمع القطريون صفوفهم، وحين علم حاكم البحرين ذلك قرر إعمال المكيدة، بفك التحالف بين النعيم وآل ثاني، فقرر إطلاق سراح الشيخ
علي بن ثامر معتذرا له من سوء تصرف عامله على قطر، وبعد ذلك طلب في استدعائه بعدما وصل إلى قطر هو وراشد بن جبر وهما من رؤساء
النعيم فأجزل لهما العطاء، وظن آل ثاني صدق نيّات حاكم البحرين وجنوحه للسلم وقبوله لمطالبهم.

أرسل آل خليفة إلى قاسم بن محمـد بن ثاني رسالة ودية خادعة لدعوته لأن يستأنف زياراته المعتادة إلى البحرين وعبروا له في
رسالتهم عن استيائهم من سوء تصرف عاملهم أحمد آل خليفة مع النعيم في الوكرة، وحثّوه على المجيء “للتشاور وتجديد الصحبة وإزالة
الشبهة”، وتقدّم قاسم بجرأة وما كاد يصل إلى المنامة حتى أُلقي به في السجن!
ما أن وصل خبر اعتقال الشيخ قاسم بن محمـد آل ثاني إلا وضجت قطر على هذه التصرف المشين، وأجمعوا أمرهم على مهاجمة البحرين لفك
أسر زعيمهم، واتفق آل ثاني والنعيم مرة أخرى ضد البحرانيين وركبوا سفنهم وأقلعوا بها إلى البحرين وهم يرتجزون:

حُرِّم عليك الصلحِ منا *** ما دام قاسم في الحديد

لا بد ما تارِد سفنّا *** بالسيفِ مصقول الحديد

ويقصدون بذلك حاكم البحرين، فلما وصلوا إلى شاطئ الجزيرة وجدوا جنود البحرين وسفنها مستعدة لغزو قطر ومتأهبة للقتال، “فتلاقى
الجمعان عند محل في البحر يُسمى دامسة، وكان ذلك في 7 صفر 1284هـ (9 يونيو/حزيران 1867م)، وتشابكت السفن بعضها ببعض بكلاليب
الحديد، وتراكمت على ظهر السفن الصفوف واشتد الضرب بالسيوف، وتساقطت في البحر جثث الرجال، حتى احمرّ وجه البحر من دماء
الأبطال”.

عاد القطريون إلى بلادهم، واستغل آل خليفة هذا الانسحاب الذي ظنوه حقيقيا، لكن انسحاب القطريين كما يشير المؤرخ يوسف العبد الله
كان “خطة لاستدراج أسطول آل خليفة للانقضاض عليهم وقطع سبل العودة إلى سفنهم”، وقد نجحت خطة القطريين بالفعل، حين باغتوا خصومهم
بهجوم كبير قبل أن يستقروا في المدينة، بل استطاعو أسر اثنين من كبار آل خليفة وهما الشيخ إبراهيم بن عيسى آل خليفة والشيخ
حمود بن سلمان آل خليفة، حيث ساوموا آل خليفة بهما لإطلاق سراح شيخهم قاسم آل ثاني.

استقلال قطر وهزيمة آل خليفة
كان البريطانيون يراقبون الأحداث عن كثب، وقد قرر المقيم البريطاني في الخليج لويس بيللي التدخل الخشن لوقف البحرانيين عند
حدهم، وأرسل يطلب من حكومة الهند البريطانية إرسال سفن حربية، وتخويله السلطة الكاملة لإعادة الهدوء في البحرين وقطر، وبالفعل
انطلق بيللي بالأسطول الحربي البريطاني إلى البحرين، وأطلق مدافعه على قلاعها؛ لأن حاكمها محمـد آل خليفة نقض شروط معاهدة 1861م
والرامية إلى السلام والهدوء وعدم الاعتداء على الجيران في الساحل الخليجي، لذا هرب محـمد آل خليفة من البحرين، فأرسل بيللي إلى
أخيه علي بن خليفة يطلب منه تقلد حكم الجزيرة بدلا من أخيه بسبب خرقه للمعاهدة، وفرض بيللي فوق ذلك مبلغا كبيرا كغرامة على
تخريب البحرانيين للدوحة قُدّرت بـ20 ألف ريال، واستولى على الأسطول البحريني ودمره عن آخره، بل أمعن بيللي في التضييق على حكام آل
خليفة حين أمر علي بن خليفة الحاكم الجديد بتسليم أخيه الهارب محـمد آل خليفة إن لجأ إليه، وإلا فإنه سيُعامله معاملة “القرصان”
الخارج الذي يستحق العقاب والسحق!

امتثل علي بن خليفة بكافة الأوامر البريطانية، وانتقل بيللي بسفنه إلى قطر فوصلها في أوائل سبتمبر/أيلول 1868م، وهنالك التقى
بأهلها وحذرهم من مغبة الإقدام على عمل أي عدوان آخر على البحرين، لكنه أخبرهم بتفهم الحكومة البريطانية لأسباب هجومهم السابق،
وأن الخطأ الجسيم كان على عاتق آل خليفة في البحرين، ثم وقّع بيللي معاهدة مع الشيخ محمـد بن ثاني في 12 سبتمبر/أيلول 1868م
نصّت على إقامة محمـد بن ثاني في الدوحة التي كان قد غادرها إلى داخل قطر بسبب المعارك، وأن لا يقوم بأي أعمال عدوانية في
البحرين، وأن يقوم بتسليم محمـد بن خليفة إلى البريطانيين إن وقع في يده، وإذا ما اختلفا في أي شيء يتعلق بدفع الأموال أو غير
ذلك فعليه الرجوع إلى المقيم السياسي البريطاني.

وبسبب هذه المعاهدة تم الاعتراف رسميا بزعامة محمـد بن ثاني وأبنائه كحُكّام لقطر التي اعتُبرت إمارة مستقلة منذ ذلك التاريخ،
وهكذا يُذكّرنا حصار قطر اليوم من قِبـل الإمارات والبحرين بما أحدثه أجدادهم قبل مئة وخمسين عاما حذو القذة بالقذة، وقد ترتب على
ذلك الحصار القديم، الذي تدمرت فيه الدوحة مؤقتا، ترتب عليه أمرا شديد الإيجابية على الجهة الأخرى من تلك المأساة؛ إذ أعاد
القطريون اكتشاف ذاواتهم وأنهم قادرون على الصمود وبذل الدماء من أجل استقلال الدوحة وبقائها ثابتة، ففشلت أطماع شيوخ البحرين
وأبوظبي جراء ذلك الصمود، ويبدو أن التاريخ يُعيد نفسه على رمال قطر وشواطئها اليوم، لكن المفارقة بدت واضحة، فالدوحة لم تتدمر
اليوم لتنهض، لكن مساعي دول الحصار هي التي فشلت.

المصدر: الجزيرة

قد يعجبك ايضا