المصدر الأول لاخبار اليمن

بين الركام والطبشورة المحترقة.. أطفال غزة يفقدون مدارسهم وأحلامهم

التعليم المفقود تحت الأنقاض

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أصبح صوت الجرس المدرسي جزءًا من ذاكرة باهتة في أذهان الأطفال، بعدما صمتت القاعات الدراسية وتحوّلت المدارس إلى ملاجئ للنازحين أو ركام تحت الأنقاض.

أكثر من مليون طالب وطالبة حُرموا من حقهم في التعليم، وتوقفت الدراسة في معظم المناطق، وسط واقع إنساني مأساوي تُمزّق فيه الحقائب المدرسية، وتتناثر الدفاتر كما تتناثر الأحلام.

مدارس تحت الركام.. وجيل على حافة الضياع

جيل فلسطيني كامل يُطمر تحت أنقاض التعليم في غزة، لم يعد التعليم مجرد حق منسي، بل أصبح حلماً بعيد المنال في ظل استهداف المرافق التعليمية.

وبين أنقاض المدارس المحطمة، وخيام النزوح التي لا تقاوم البرد ولا الجوع، يقف جيلٌ بأكمله مشوّه الحلم، تتسرب منه سنوات الطفولة كما يتسرب الحبر من دفاتر غطاها الغبار والدم.

بحسب تقرير صادر عن منظمة “يونيسف”، فإن حرمان الأطفال من التعليم لا يهدد فقط مستقبلهم، بل يعمّق من جراحهم النفسية، ويجعلهم أكثر عرضة للعزلة والصدمات.. التعليم، كما يقول التقرير، ليس رفاهية في الحروب، بل وسيلة للنجاة العقلية والوجدانية.

رغم ذلك، تحاول بعض المبادرات المحلية والدولية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. مبادرات للتعليم الإلكتروني، وصفوف مؤقتة في الخيام، وجهود فردية من معلمين لا يتقاضون أجورًا، لكنها تبقى “قطرات في محيط الألم”، كما يصفها أحد أولياء الأمور.

في مدرسة “الفاخورة” شمال القطاع، التي تحولت إلى مأوى لأكثر من 300 عائلة نازحة، تحاول المعلمة “سمر” أن تحيي بعض الدروس داخل أحد الصفوف المتبقية.. تستخدم قطع الكرتون والسبورات المكسورة لإيصال فكرة هنا وهناك.. تقول: “نعلّم تحت القصف، بدون طاولات ولا كتب.. لكن الأطفال ما زالوا يفتحون عيونهم بلهفة كلما ناديناهم: هيا نبدأ الدرس.”

وتضيف المعلمة “سمر” بحرقة: “نحن لا نعلمهم فقط القراءة والكتابة.. نحن نحاول أن نزرع فيهم أملًا بالحياة المهددة بالموت في أي لحظة والتي باتت أقرب إليهم من حبل الوريد، في زمن لا يعرف سوى الدمار والموت.”

نريد أن نعود طلابًا.. لا لاجئين

منذ بدء العدوان الإسرائيلي، توقفت العملية التعليمية في معظم مناطق قطاع غزة.. أكثر من 300 ألف طالب وطالبة حُرموا من الوصول إلى مدارسهم، بحسب وزارة التربية والتعليم الفلسطينية.. كثير من المدارس إمّا دُمرت بالكامل، أو تحوّلت إلى ملاجئ للنازحين.

 

في غزة، المدارس تحولت إلى مأوى.. والكتب صارت وسائد.. لم تُقصف المدارس فقط، بل قُصف الأمل.. وفي المقابل، التعليم ليس مجرد حق في غزة.. بل صرخة حياة.

بين الركام، يرفع الأطفال دفاترهم المهترئة، يكتبون فيها أمنياتهم لا واجباتهم، ويكررون: “بدنا نرجع على المدرسة.. بدنا نكمل تعليمنا.”

في أحد أحياء غزة الشرقية، يجلس الطفل “مالك” ذو التسعة أعوام على أنقاض مدرسة كانت بالأمس القريب تفتح له أبواب الأمل.. يحمل كتابه المهترئ، ويقلب صفحاته المتربة بصمت، كأنه يراجع حلمًا تبخر مع أول غارة جوية.

يقول بصوت خافت: “كنت أحب الحصص، خاصة الرياضيات.. كنت أحلم أصير مهندس، أبني بيوتًا قوية ما تنهدم زي بيوتنا ومدرستنا.”

مدارس تتحوّل إلى مقابر

في صباحٍ باهت من صباحات غزة المثقلة بالدخان، كانت الطفلة روان (11 عاماً) ترتّب كتبها الممزقة داخل كيس بلاستيكي وجدته بين الركام.

كانت تنتظر أن تعود إلى مدرستها يوماً ما، لكنها لم تكن تعلم أن مدرستها أصبحت جزءاً من ذاكرة محطّمة، مثل مئات المدارس الأخرى التي تحولت إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي المستمر منذ 7 أكتوبر 2023.

“دمروا المدرسة.. قتلوا المعلمة.. وقتلوا معها حلمي أن أصبح طبيبة”، تقول روان بصوت خافت وهي تشير إلى كومة الحجارة التي كانت في السابق فصلها الدراسي.. لقد تهجّرت أسرتها خمس مرات خلال الأشهر الماضية، ولم تكن تحمل معها سوى حقيبة صغيرة تحتوي على كتب مدرسية وبعض الذكريات.

روان ليست وحدها.. تقول وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” إن أكثر من 400 مدرسة في القطاع تعرضت للقصف المباشر، بينها 162 مدرسة تتبع لها.. هذه الأرقام المروعة، التي وثّقتها الوكالة عبر منشور حديث على منصة “إكس”، لا تعبّر فقط عن أعداد الأبنية المدمّرة، بل عن مئات آلاف الأطفال الذين انقطعت دروبهم إلى التعليم.

وتُشير “أونروا” إلى أن 88% من المدارس في غزة أصبحت غير صالحة للاستخدام، بين مدمّرة جزئياً أو كلياً.. وهذا لا يعني فقط توقف الدراسة، بل انهيار البنية التعليمية، وتفاقم أزمة نفسية واجتماعية لن تُرمم بسهولة.

وفي منشور على منصة “إكس”، أوضحت الأونروا أن أكثر من 70% من مدارسها – التي لجأ إليها النازحون بحثاً عن مأوى، تحوّلت إلى أهداف مباشرة.. بعضها قُصف بينما كان الأطفال نياماً تحت نوافذها المفتوحة، وبعضها الآخر دُمّر وهم يحتمون في زواياه وتحولت هذه المدارس من ملاذات آمنة إلى قبور معلّقة، تروي مأساة من احتموا بجدرانها ذات يوم.

“كنا نعتقد أن المدرسة آمنة، أنها مكان للعلم فقط… لم نكن نعلم أنها ستُقصف ونحن نقرأ سورة الفاتحة”، تقول أم محمد، والدة أحد التلاميذ الناجين، بصوت مرتجف وهي تقف فوق ركام مدرسة خان يونس الإعدادية للبنين.

ملاحقة الأمل وتشويه الحق

في خضم هذا الدمار، لا يكتفي كيان الاحتلال بتدمير المدارس، بل تواصل حملتها السياسية لتقويض عمل “أونروا”.. في 28 أكتوبر 2024، أقرّ “الكنيست” قانونين يمنعان الوكالة من مزاولة أي نشاط داخل كيان الاحتلال، ويلغيان التسهيلات والامتيازات، ويمنعان أي اتصال رسمي معها.

وقد دخل القرار حيز التنفيذ نهاية يناير الماضي، وسط حملات تحريض متواصلة تزعم – دون تقديم أدلة قاطعة – أن عدداً من موظفي الوكالة شاركوا في هجوم 7 أكتوبر.

جيل بلا فصول

 

لكن بالنسبة للأطفال كـ سليم، لا تعنيهم مزاعم كيان الاحتلال بحق “الأونروا”.. ما يهمهم هو مقعد خشبي، قلم رصاص، ومعلم يقول لهم: “أنتم المستقبل”.

في أحد أزقة مخيم النصيرات، يسير الطفل سليم (9 أعوام) حافي القدمين، يجر حقيبته المدرسية الممزقة وقد التصق بها غبار القصف، يقف أمام بوابة مدرسته التي أصبحت الآن مجرد أنقاض.. لا لافتة، لا فصول، لا طابور صباحي، ولا حتى سبورة كتبت عليها معلمته بالأمس القريب جملة “الوطن أكبر من الجراح”.

مدرسة سليم، التابعة لوكالة “أونروا”، كانت ملاذه اليومي من جحيم الحرب، لكنها أصبحت هدفاً في قائمة طويلة من المدارس التي استُهدفت بشكل مباشر من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، منذ بداية العدوان على غزة في 7 أكتوبر 2023.

ففي خيمة صغيرة نصبتها عائلة سليم بجوار مبنى مدمر، يُحاول الطفل أن يكتب على الأرض بالحجارة قائلاً: “كنت أريد أن أصبح مهندساً، أبني مدرسة من غير سقف، علشان ما توقع علينا”، يقول بنبرة بريئة تُخفي وجعاً كبيراً.

كلمات سليم تختصر مأساة جيل كامل، وُلد تحت الحصار، وترعرع بين صفارات الإنذار، والآن يُجبر على وداع المدرسة دون وداع حقيقي.

ففي غزة، حيث يُفترض أن يكون التعليم طوق نجاة من دوامة الفقر والعنف، يُمنع آلاف الأطفال من الوصول إلى أبسط حقوقهم، لا لذنب اقترفوه، بل لأن العدوان الصهيوني اختار مقاعدهم الدراسية هدفًا.. وبينما يتعلّق أقرانهم في العالم بشهاداتهم الدراسية وأحلامهم الجامعية، يتعلّق أطفال غزة بأمل أن تعود المدرسة، وأن يُسمح لهم فقط بالتعلم.

قد يعجبك ايضا