عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
في مساءٍ عربيٍ ودولي آخر.. ثقيلٍ بالصمت، مُثقلٍ بالتواطؤ، كان الليل فوق حي “ثقبان” جنوب العاصمة صنعاء، أكثر سوادًا من العادة.. لم يكن مساءً اعتياديًا يتهيأ فيه الأطفال للنوم، ولم تكن الأمهات تجهز وجبة العشاء على أمل صباح جديد.. لم يكن الحي الشعبي يعلم أن ليله سينقلب مقبرة جماعية، وأن العشاء سيتحول إلى رماد، وأن الطفولة ستحترق على موائد لم تكتمل.
علي يحيى صلاح مسعود، عاملٌ يمنيٌ بسيط، اعتاد أن يعود كل مساء إلى أطفاله بفتات رزقه.. يحمل أكياسًا من الخبز، بعض الحلوى، قطعة شوكولاتة، وربما علكة صغيرة تسعد قلوب أبنائه، في ذلك المساء.. كان عائدًا بفرح متواضع إلى بيت يغمره الضحك، ويؤنسه دفء الأسرة.
في الداخل، كان كل شيء عاديًا كما تحبّه الأسر البسيطة.. الأطفال يحيى وعلي يركضون ويلعبون حول والدهم، والأم الحامل في شهرها الرابع تُعد وجبة العشاء، بمساعدة الطفلة الكبرى “يسرى”.. البنات يغنين مع دمية صغيرة: “يا بقرة صُبِّي لبن”، لكنّ “راعي البقر” الأمريكي هذه الليلة لن يصبّ لبنًا.. بل نارًا حاقدة جاءت من السماء على أجنحة الصواريخ الأمريكية.
راعي البقر.. قاتل الطفولة
هل كانت الزهرات الصغيرات تدرك أن “راعي البقر” في بلاد العم سام، لا يصبّ اللبن كما في الأغاني، بل يقصف البيوت الآمنة بالصواريخ؟
هل كانت “يسرى”، التي ظهرت قبل ثلاثة أيام فقط على شاشة التلفاز من مدرستها، تضامنًا مع أطفال غزة، تتخيل أن موعدها مع القصف بات قريبًا، وأن صرختها لأجل غزة، ستتحول إلى مرثية لأجلها؟
هل كانت تعلم أن صرختها تلك ستصبح نداءها الأخير، وأن العالم الذي تجاهل غزة، سيتجاهلها أيضًا.. وهي تحترق تحت صواريخ “التحالف الأمريكي البريطاني”.
صواريخ الموت بدلاً من اللبن
دوّت الصواريخ الأمريكية، فجأة، من دون سابق إنذار.. استهدفت ثلاثة منازل متجاورة، بينها منزل علي مسعود، تحوّل البيت إلى حفرة لهب، إلى ركام مشتعل، إلى صمت مطبق لا يقطعه سوى بكاء الجيران المذعورين، وصرخاتهم المرتجفة في وجه العجز.
استشهد الأب والأم الحامل والجنين الذي في بطنها، وستة من أطفالهما – أربع بنات وولدان – في لحظة واحدة، لم يسعفهم الحنين إلى العشاء، ولا لهفتهم على قطعة شوكولاتة، ولا براءة أعمارهم، احترقوا وهم يحلمون بغدٍ لم يأتِ، ولم تنجُ سوى الذكريات.. لم يعد للبيت باب، ولا جدران.. فقط رماد فوق رماد.
وجع لا يُحصى
أعلنت وزارة الصحة والبيئة في صنعاء أن مجزرة “ثقبان” أودت بحياة 12 شهيدًا، بينهم 8 من أسرة واحدة – عائلة علي مسعود – إضافة إلى 4 جرحى.
لكن الأرقام لا تروي المشهد الحقيقي.. الأرقام لا تبكي، لا تحمل العلكة المحترقة، ولا تعرف كيف احترق الأطفال وهم ينتظرون العشاء.. لا تحكي عن الأغنية التي انطفأت في حناجر البنات، ولا عن الأم التي احترقت في المطبخ، ولم تقل كيف كانت “يسرى” تبكي لأجل أطفال غزة، ولا كيف كان الطفلان “يحيى” و”علي” يتسابقان في استقبال والدهم كل مساء.
جريمة حرب مكتملة.. بلا مساءلة
ما حدث في حي “ثقبان” ليس مجرد قصف عشوائي.. إنها جريمة حرب أمريكية مكتملة الأركان، استهدفت أسرة آمنة في منتصف الليل، وأحرقت أطفالًا ينتظرون العشاء، ونساءً في مطبخهن. تجاوز الحقد الأمريكي كل حدود السياسة والعسكرية، ليغتال دفء البيوت وأغاني الأطفال البريئة.
في زمن الموت الأمريكي، لا تصب الأبقار اللبن.. بل الصواريخ. وفي عالم الصمت الدولي، تبقى أصوات الأطفال تحت الركام أعلى من ضجيج التصريحات.
صمت عربي.. وتواطؤ دولي
حين تخرّ منازل المدنيين على رؤوس ساكنيها، لا تصل بيانات الإدانة، وحين تحترق الطفولة في مطابخ العشاء، لا تتحرك مؤسسات الطفولة، لم نسمع بيانًا غاضبًا، لم يُعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن أو قمة عربية، لم ترتجف ضمائر القادة العرب، ولا أقلام كبار الإعلاميين.. العالم – مرة أخرى – قرر أن يُغلق عينيه أمام جريمة حرب تُنفذ بتمويل أمريكي وبريطاني، وتخاذل عربي وصمت دولي.
ثمة تواطؤ لا يُعلن، لكنه واضح كوضوح الدم على جدران البيوت.. صمتٌ لم يعد مجرد عجز، بل صار شريكًا في القتل، يبرر، يُطبع، ويواصل النظر في الاتجاه الآخر.
هذا العالم لم يعد يستحي