المصدر الأول لاخبار اليمن

جنان تموت جوعاً.. وغزة تسأل العالم: كم طفلاً يجب أن يموت بعد؟

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

 

في حضن أمها المرهق من طول البكاء، لفضت الطفلة جنان صالح السكافي، ذات الأربعة أشهر، أنفاسها الأخيرة صباح السبت الماضي، داخل غرفة في مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة، بعد صراع مرير مع الجوع والجفاف، انتهى بخسارة أخرى موجعة لطفولة تحتضر بصمت في قطاع غزة الذي أنهكته الحرب والمجاعة.

احتضنت أم جنان طفلتها للمرة الأخيرة.. لم تكن تبكي، لم تكن تصرخ، فقط كانت تحدّق في ملامح جنان المتعبة، كأنها تحاول أن تعيدها إلى الحياة بنظرة، أن تنفخ فيها بعض الحليب، بعض الحنان، بعض الأمل. كأنها ترجوها أن تبقى، أن تصمد قليلًا بعد.

لم يكن رحيل جنان حدثاً عابراً، بل مشهداً يلخص كل ما هو مروّع في العدوان والحصار الذي تتعرض له غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي، حيث يموت الأطفال لا بفعل القذائف فقط، بل من ندرة الحليب، وانعدام الغذاء، وصمت العالم.

أربعة أشهر من الجوع

أربعة أشهر فقط عاشتها الصغيرة جنان صالح السكافي، أربعة أشهر بين محاولات البقاء ووقع الجوع القاتل، من الألم الذي لا يُكتب قبل أن يخبو جسدها المنهك صباح السبت 4 مايو الجاري، لتصبح رقمًا جديدًا في قائمة الضحايا الذين هزمتهم المجاعة بينما العالم يراقب بصمت.

حين وُلدت، كان وزنها 2.6 كغم، وبعد أربعة أشهر من المحاولات للبقاء، لم يزد وزنها سوى 200 غرام فقط لأنها لم تملك فرصة للنمو، جسدها النحيل، المعلّق بين الحياة والموت، كان يخوض معركة قاسية ضد الجفاف والإسهال المزمن.. كان يحتضر يومًا بعد يوم، لا لأنها مريضة، بل لأن العالم تركها تتقلّب بين الحليب المفقود، والإسهال الذي أنهك جسدها الهش، والجفاف الذي كسر جلدها الطري.

لم تكن جنان مريضة بمرض نادر، ولم تكن تعاني من حالة ميؤوس منها، كل ما احتاجته مجرد علبة حليب طبي تناسب وضعها الصحي ودواء الإسهال.. لكنها لم تحصل عليهما.

رحيلٌ بصمت.. والعالم يشاهد

جنان تلفظ أنفاسها الأخيرة

رحلت جنان بصمت.. لا صاروخ أنهى حياتها.. ولا شظايا، رحلت لأنها جاعت، لأنها كانت بحاجة إلى شيء بسيط.. إلى علبة حليب.

ليس جديدًا أن يموت الأطفال في غزة، ولكن موت جنان كان أقسى من أن يُحتمل.. كانت وحدها في معركتها ضد الجوع، حتى خسر جسدها الصغير الرهان.

في صباحها الأخير، كانت هادئة على غير العادة، لا تبكي، لا تصرخ، فقط نامت.. نومًا لا عودة منه، جسدها النحيل توقف عن المقاومة.. لم تُقصف منزلها، ولم تخترقها شظايا، لكنها استسلمت للجوع الذي بات سلاحًا آخر يحصد أرواح الأطفال في غزة المحاصرة.

في ذلك اليوم، جفّت دموعها، وتوقّف قلبها الصغير عن القتال.. كانت على سرير حديدي، يغطيها غطاء خفيف، وعلى أنفها أنبوب تنفّس، وكان الأطباء يحاولون، فقط يحاولون.. لكن ماذا يفعل الأطباء عندما تنفد الكهرباء، والماء، والحليب، والدواء، وحتى الأمل؟

تقول والدتها بصوت متهدّج: ” كنت أركض يومياً بين المستشفيات، وأنا أحملها بين يديّ.. كانت تبكي وتصرخ، من الألم، والجوع، وأنا لا أملك لها شيئًا.. كنت أرى عينيها تغرقان أكثر كل يوم، وكنت عاجزة عن فعل أي شيء.

“لم أكن أطلب سوى علبة حليب، ماتت من الجوع.. ماتت بين يديّ”.. هكذا همست أم جنان، وهي تحتضن جسد ابنتها المسجّى على كفن أبيض، بعد أن غادرت بصمت، تاركةً والدتها تغرق في دوامة الأسى والعجز.

وبينما كانت أمها تغلق عينيها الصغيرتين بيد مرتجفة، كان العالم يتفرج.. لا بيان صدر، لا طائرة مساعدات وصلت، لا معبر فُتح، لا ضمير اهتز.

طفولة تتساقط كأوراق الخريف

جنان لم تكن مجرد طفلة في غزة، كانت رمزاً لوجع شعب يُعاقَب بالجوع، وللحليب الذي يُمنع عن الرضع عمداً، ولصمت عربي لا يُكسر، كانت شهيدة المجاعة، واحدة من 57 طفلاً ماتوا كما تموت الأوراق اليابسة في الخريف.. دون ضجيج.

وفي حصيلة لا تعكس فقط أرقاماً، بل تحكي حكايات أمهات مكسورات، وأجساد صغيرة لفظت أنفاسها، يقف أكثر من 66 ألف طفل آخرين على شفير الموت جوعاً، ينتظرون المصير ذاته، في عالم يتفرّج عليهم وهم يتلاشون ببطء.

العالم يتفرج.. والخذلان يتعمق

مشهد رحيل جنان لم يكن نهاية قصة طفلة واحدة، بل جرس إنذار ثقيل لعالم تمرّس على تجاهل معاناة غزة.. صمت المجتمع الدولي، وعجزه عن اتخاذ أي موقف حاسم، بات أكثر إيلاماً من صوت الطائرات في سماء غزة.. بينما يتحول خذلان العالم العربي إلى مرآة قاسية تعكس الانهيار الكامل لقيم الأخوّة والنخوة والمسؤولية.

رحيل جنان، لم يكن فقط نهاية حياة، بل إعلاناً صارخاً عن حجم الفجوة بين طفولة تموت جوعاً، وضمير عالمي يزداد برودة.. وفي جنازتها الصغيرة، لا يشيّع جسدٌ فقط، بل تُدفن آمال عشرات آلاف الأطفال الذين ينتظرون شيئاً من العدالة.

طفولة تُزهَق.. إلى متى؟

غادرت جنان، وستغادر بعدها أسماء أخرى كثيرة، طالما بقيت غزة محاصرة، وطالما بقيت شحنات الغذاء محتجزة، وطالما ظل العالم عاجزًا عن كسر هذا الموت البطيء.

وفي كل ساعة تمر، تمضي غزة في تعداد شهدائها.. طفلًا تلو طفل، كأنما كُتب على هذا الشعب أن يختبر الموت بكل أشكاله، بينما العالم يكتفي بالمشاهدة.

على قبرها الصغير، قد يُكتب اسمها، لكنه في الحقيقة لن يكون مجرد اسم، بل علامة سوداء في ذاكرة الضمير الإنساني الذي خذل غزة، وترك أطفالها يموتون وهم يحدّقون في فراغ موحش، ينتظرون شيئًا لا يأتي.

ويبقى السؤال الأشد إيلاماً: كم جنان أخرى يجب أن تموت حتى يتحرك العالم؟

قد يعجبك ايضا