الرحلة الأخيرة بحثًا عن الطحين.. قصة الطفل فايز شهيد الجوع والخذلان
حين صار الطحين أثقل من قلب طفل ضحّى بحياته ليطعم عائلته الجائعة في غزة
عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
بوجه شاحب ودموع لم تجد من يمسحها، قالت والدة الطفل فايز: “قال لي لا تخافي.. برجع بسرعة”، لكنها لم تنتظر طويلاً حتى عاد – لا على قدميه كما وعد – بل محمولاً على الأكتاف، ملفوفًا بكفن أبيض، بعد أن اغتالته طائرة “إسرائيلية” مسيّرة.
فايز أبو سمرة (14سنة)، كان وحيد والديه من الذكور، وأخًا لأربع شقيقات يصغرنه، عاش مع عائلته في حي الشجاعية شرق غزة، قبل أن أسرته على النزوح من بيتها المدمّر إثر قصف عنيف طال الحي.. رحلوا بما استطاعوا حمله، لكنهم تركوا خلفهم كيس طحين وبعض المؤونة البسيطة التي كانت تسدّ رمقهم.
الطفل فايز، لم يكن يحمل سلاحًا، ولا ارتدى زيًّا عسكريًا، لم يكن سوى طفل جائع.. أنهكته الحرب كما أنهكت أهله، فقرّر أن يحمل على كتفيه مسؤولية أسرة بأكملها.. ويذهب، بحثًا عن كيس طحين.
كان يحمل حلمًا صغيرًا وكيسًا فارغًا، ذاهبًا به إلى منزله المهدم في حي الشجاعية شرق غزة، ليجلب لأمه وشقيقاته الأربع كيس طحين وبعض الفتات المتبقي في مطبخ البيت المهجور.. لكن قذيفة صهيونية قطعت عليه الطريق.. إلى الأبد.
جوع قاتل.. وطفل شجاع
في مطلع شهر مايو الجاري، كانت شقيقات فايز يبكين من شدة الجوع.. بطونهن فارغة، والدموع على وجوههن لا تجف لا طعام، لا ماء، والحصار يشتدّ أكثر مع كل يوم من العدوان المتواصل، لم تعد الأم تملك شيئًا لتقدمه لهن، سوى حسرة، وندم واحد.
قالت الأم وهي تحاول تهدئة صغارها: “لو أخذنا كيس الطحين لما تركنا بيتنا بعد القصف، لما كنا اليوم جوعى”.. عندها قفز فايز قائلاً بثقة طفل لم يدرك حجم الخطر: “أنا بروح أجيبه، برجع بسرعة.. لا تخافي”.
حاولت والدته أن تثنيه عن قراره، توسّلت إليه، لكنه أصر، لم يكن يعرف أن طائرات الاحتلال تراقب حتى الجوعى، وأن طفولته لن تشفع له حين تراه الكاميرا.. طائرات لا تفرّق بين طفل يفتّش عن طحين وجندي يبحث عن قذائف.. ولا بين رغيف وباروت.
استهداف مع سبق المعرفة
ركض فايز بقلبه النقي نحو بيتهم المدمر، الذي لم يعد سوى أطلال، بحث بين الركام، ربما وجد الكيس، وربما شمّ رائحة أمه في الغرف المحطمة، لكنه لم يكن وحده في المكان.. طائرة مسيّرة كانت تحلق فوقه، تراقبه، ترصده بدقة.. التقطت صورًا دقيقة له، كانت تعلم جيدًا أن جسده النحيل لا يخبئ سلاحًا.
كانت طائرة الموت تدرك أن طفلاً إذا دخل منزلًا مدمّرًا لا يعود إلا بحثًا عن طعام أو قطعة ملابس، ومع ذلك.. أطلقت عليه القذيفة، فأُصيب بشظايا قاتلة.. مزّقت جسده الصغير، وألقت به صريعًا قرب باب بيته.
صمت العالم لم يمنح فايز فرصة للعودة، كما وعد أمه.. الصمت ذاته الذي يقتل أطفال غزة يوميًا، إما بالقصف أو بالجوع.
وداع منكس الرأس
في مستشفى الشفاء، هرعت الأم إلى الجثمان، وانهارت على صدره البارد.. شهقت وهي تردد بحرقة: “راح يجيب طحين عشان نأكل”.. لم يجدوا في ملابسه شيئًا، فقط الكيس الممزق الذي كان يحمله.
شيّع المئات جنازة الطفل فايز في مشهد مؤلم.. والده المنكسر، كان يردّد والدموع تخنقه: “راح يجيب طحين عشان نأكل.. ابني ما كان محارب، كان جوعان”، حملوه على الأكتاف، وغسلوه بدموع المقهورين، ثم واروه الثرى وسط دعوات الغضب والقهر.
لم يبق من فايز سوى كيس قماش صغير تمزّق بفعل الشظايا، وقصة تضاف إلى سجل أطفال غزة الذين تحولوا إلى أهداف عسكرية، لأنهم فقط.. أرادوا أن يأكلوا ويعيشوا.
طفولة تحت القصف والجوع
فايز كان وحيد والديه من الذكور، محاطًا بأربع شقيقات كنّ ينظرن إليه كحامٍ وسند، اليوم.. يجلسن حول أمهن، يتأملن الباب الذي خرج منه ولم يعد.. جوعهن ما زال قائمًا، لكن الوجع اليوم بات مضاعفًا: لا طحين.. ولا فايز.
في غزة، كيس الدقيق صار يساوي حياة طفل.. صار الأطفال يُقتلون لأنهم جياع، أو لأنهم يبحثون عن جرعة ماء، صارت الطفولة هدفًا مشروعًا لطائرات الاحتلال، تحت سمع العالم وبصره.. ليس مجازًا، بل حقيقة تؤكّدها كل غارة، كل جنازة، وكل دمعة أم تودّع ابنها بسبب الجوع أو القصف.
في حضرة الخذلان