عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
لم يكن يحمل شيئًا سوى اسمه ودموعه، ولا يطلب شيئًا سوى ما تبقّى من رائحة أمه بين الركام، في مستشفى ناصر في خان يونس، وقف الطفل محمد محمود شراب (9سنوات)، الناجي الوحيد من مجزرة صهيونية، يحدّق في الوجوه حوله بذهول، قبل أن ينطق بجملته التي اختصرت وجها من وجوه مأساة غزة: “اطبعوا لي صورة أمي… بدي أشوفها، أمانة”.
الطفل محمد، فقد والدته وجميع أفراد أسرته في قصف عنيف استهدف منزلهم عند مفترق مرتجى، جنوب مدينة خان يونس، مساء الجمعة 25 أبريل الماضي، لحظة الغارة، لم يكن في البيت سوى العائلة، كما العادة في ليالي غزة المحاصرة، حين يختار الناس البقاء مجتمعين كأنهم يستعدّون للموت سويًا.
بداية الكارثة
قبل ساعات فقط، كان محمد يلعب أمام بيتهم، صوت الطائرات كان حاضرًا، لكنّه اعتاده، ففي غزة.. لم تعد الطائرات تثير الذعر كما في السابق، لأن الخوف أصبح جزءًا من الروتين اليومي، فجأةً، سُمعت ضربةٌ مدوية، الركام حلّ مكان المنزل.. لم يعد هناك سقف، ولا جدران، ولا دفء أمٍّ تسأل: هل أكلت؟ هل نمت جيدًا؟
ركض محمد إلى مكان الانفجار، وهو يصرخ: “إمي جوّا… إخوتي جوّا… طلعوهم، بالله عليكم، طلعوهم!”
ثم انهار راكعًا على الأرض، يضع وجهه في التراب، يهمس بكلمات لا تُفهم، سوى لمن فقد قلبه دفعةً واحدة.
الطفل الذي صرخ باسم أمه والركام أجابه بالصمت
شهود عيان قالوا إن محمد بقي يُردّد: “هاتولي أي شي من ريحة إمي، أي شي من ريحتها بس.. شالها، فردة جزمتها، أي شي بيوصلني فيها”.
لم يطلب طعامًا، لم يسأل عن دمية، لم يسأل حتى إن كان سينجو… فقط أراد شيئًا يُثبت أن أمه كانت هنا.. أي شيء يذكره بها.
حين انتشلت الطواقم جثث والدته وشقيقيه، لم يُسمح له بالاقتراب.. كان المشهد قاسيًا، يقول أحد المسعفين: “لكنه لم يكن أقسى من نظرات محمد، حين أدار ظهره، كمن يخشى أن ينسى ملامح أمه دون أن يُوثّقها”.
لم يكن محمد يصرخ كما يفعل الأطفال عادة حين يفقدون أغلى ما لديهم.. بل وقف متسمّرًا أمام أبواب الطوارئ في مستشفى ناصر، يحدّق طويلاً في الغرفة البيضاء، ثم يقبض على قميصه المهترئ بيدٍ ويرفع الأخرى نحو أحد الأطباء، كأنه يستجديه ألا يدخلوهم إلى المشرحة قبل أن يراهُم.
سأله الطبيب بلطف: “شو بدك؟ بدك نجيبلك مي؟”
هزّ رأسه نفيًا.. ثم انفجر باكياً وهو يقول: “صوروها بترجاك.. اطبعوا لي صورة أمي بس خليني أشوفها لو بصورة.. ما بدي أنسى شكلها.”
قالها وهو يحبس أنفاسه، كمن يخشى أن تنهار منه الدنيا، بعد أن خسر عالمه كاملًا في لحظة واحدة.
طفل في التاسعة من عمره يطلب صورة، ليس لأنه يُحب التصوير، بل لأنه فقد كل شيء دفعة واحدة: حضن، رائحة، صوت، ومكان آمن اسمه “بيت”.
رقم في سجل الإبادة… لكنه لا يروي الوجع
محمد ليس الحالة الوحيدة، لكنه يختصر حال أكثر من 41 ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة، وفق معطيات المكتب الإعلامي الحكومي، كما يُعد من بين 5,120 عائلة تمّت إبادتها كليًا أو لم يتبقَّ منها سوى فرد واحد.
أرقام جافة تُنقل في نشرات الأخبار، لكنها تخفي وراءها دموع محمد.. ووجعه، وسؤاله الذي سيلاحقه لسنوات: “لماذا أنا ما مت معهم؟ ولماذا راحوا كلهم؟”
المشهد يتكرر بشكل شبه يومي، لكن صدمة محمد هزّت حتى الطواقم الطبية المعتادة على رؤية الدم والضحايا وحسرات الألم.. تقول إحدى الممرضات: “حاولنا نلهيه بأي شيء… لكنه كان يطلب فقط صورة لوجه أمه، يريد أن يحتفظ بها كما يحتفظ الآخرون بألعابهم.”
طفولة تحت الأنقاض
لو كان محمد في مكانٍ آخر من العالم، كان سيجلس في هذا الوقت أمام شاشة رسوم متحركة أو يقرأ قصة عن الفضاء والحيوانات، أما هنا.. في خان يونس، فكان يبحث في التراب عن بقايا ثوب أمه، عن شيء يحمل رائحتها، لعلّه يقنع قلبه الصغير بأنها كانت موجودة.
ربما لن ينام محمد لليالٍ طويلة، وربما لن يصدّق بسهولة أن كل شيء انتهى في لحظة.. لكنه بات شاهدًا حيًا على جرائم لم تتوقف، ووجها من وجوه الطفولة المغدورة في غزة.
خاتمة موجعة