عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
لم يكن الطفل، عبدالرحمن نبيل نبهان، يعرف أن الرحلة التي خرج فيها صباح الأربعاء، ستكون الأخيرة في عمره القصير.. كان الصغير ابن الخمس سنوات يستيقظ كل يوم على همسات الجوع في بطون شقيقاته، وعلى تنهيدة أمّ تتقن فنّ الصبر وهي تقسم ما تبقّى من الخبز اليابس على عدد من الأفواه الجائعة.
في ذلك الصباح، كثر الحديث في مدرسة بنات المفتي في مخيم الشاطئ في غزة، التي تحوّلت إلى مركز إيواء، عن “تكية” ستوزع الطعام على النازحين في الساحة.. الفكرة بدت كبيرة بالنسبة لطفل في سنّه، لكنها كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة له ولعائلته.. قال في نفسه: “بجيب لهم أكل… يمبسطوا”، لكن القدر.. بمعناه الحقيقي والمجازي، كان يغلي في انتظاره.
حين يتحول توزيع الطعام إلى مذبحة صامتة
عبدالرحمن، الذي لم يذهب للمدرسة قط للتعلم والدراسة، خرج من الصف الذي تنام فيه العائلة منذ شهور، حافي القدمين كعادته، يحتضن إناءً بلاستيكيًا صغيرًا، سار بين الجموع، تزاحم مع المئات.. أيدٍ ممدودة، أجساد تدفع، وجوه شاحبة تتزاحم على وجبة.
وفي لحظة تدافع مؤلمة، فقد عبدالرحمن توازنه.. لم ينتبه أحد لطفل صغير ضاع بين الأرجل، وسقط في القدر الكبير الذي يغلي فيه الطعام.. صرخة واحدة مزّقت ضجيج الجوع، لحظة واحدة فقط، كانت كفيلة بأن تحوّل جسده الغضّ إلى ورقة محروقة.
هرع البعض لإخراجه، لكن اللهب كان أسرع.. حمله أحدهم وهو يصرخ ويتلوّى، يبحث عن يد تطفئ النار أو صوت يطمئنه.. نُقل إلى مستشفى الشفاء، لكن الحروق التي التهمت 70 % من جسده، قد أكلت جلده وعينيه وملامحه.
مرارة العجز
عبدالرحمن أصيب بحروق بالغة من الدرجة الثالثة، لم تنفع معها محاولات إنقاذه وسط شحّ الدواء وانعدام العناية الطبية، فلفظ أنفاسه بعد ساعات في مستشفى الشفاء، الذي يضيق يوميًا بجثث الأطفال وآهات الأمهات.
في غرفة الطوارئ، وقف والده، نبيل نبهان مذهولًا، أمام جثمان ابنه المسجّى، يتصبب عرقًا ودمعًا، لم يقل شيئًا، فقط انحنى على وجه طفله الذي بالكاد يُرى، همس في أذنه بكلمات تشبه الاعتذار، لا عن تقصير، بل عن هول العالم الذي خذلهم جميعًا.. ثم تمتم وسط دموعه بجملة تختصر وجع العدوان الإسرائيلي ومرارة العجز: “أنا قبل الحرب ما كنت حارم أولادي من إشي”
رحل من أجل لقمة
رهف، شقيقته التي تكبره بعامين فقط، لم تفهم معنى الموت، لكنها شعرت بالغياب.. تهمس بصوتٍ منكسر وهي تضع رأسها على وسادته الفارغة:
“راح يجيب لنا أكل.. وقع بالقدر.. كان ينام بجنبنا، وهسّه راح.”
عبارة طفولية بسيطة، لكنها تشق القلب نصفين، وتحمل بين كلماتها تساؤلات مؤلمة: لماذا يُدفَع الأطفال للموت من أجل الطعام؟ لماذا يُجبر طفلٌ لم يُكمل عامه الخامس على تحمل عبء النجاة عن أسرته؟
الحادثة لم تكن استثنائية، بل مشهدًا متكرّرًا في غزة الجريحة، حيث يواجه الأطفال خيارين لا ثالث لهما: الموت تحت القصف، أو الموت جوعًا.
خذلان عربي وصمت دولي
في زاوية المدرسة التي تحوّلت إلى مأوى، ما زال القدر الكبير يغلي.. الناس ما زالوا جوعى، والأطفال يبحثون عن وجبة بلا طابور، لا أحد يسأل عن عبدالرحمن.. فالموت في غزة بات مزدحمًا، حتى على الأطفال.
وفي الخارج، لا تزال عواصم القرار منشغلة ببيانات مترددة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع ودم.. المساعدات مقننة ومتعفنة في المعابر العربية، والمواقف خجولة، والعالم يكتفي بمشاهدة صور الأطفال المحترقين دون أن يرف له جفن.. بيانات الشجب، والتصريحات الباردة، والتقارير المحايدة لا تروي الجوع، ولا تحمي الأطفال من السقوط في القدور.
خاتمة الإنسانية
لم يكن عبدالرحمن جنديًا، ولا مقاتلًا، ولا حتى تلميذًا بعد.. كان طفلًا يحاول أن يُطعم إخوته في وطنٍ جعله العالم مكانًا لا يصلح للعيش.
سقط عبدالرحمن في قدر يغلي، ليصبح اسمه علامةً أخرى على خريطة الألم الفلسطيني ووصمة عار جديدة على جبين الإنسانية الصامتة.
عبدالرحمن مات جائعًا.. محترقًا، محاولًا أن يكون بطلاً صغيرًا في عيون أمه، لكنه لم يجد سوى لهيب القدر.. وصمت العالم.