المصدر الأول لاخبار اليمن

حنين وورد.. الطفلتان اللتان خرجتا من تحت النار تسألان: أين أمي؟

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

 

كانت مدرسة فهمي الجرجاوي التي لجأت إليها عشرات العائلات النازحة في حي الدرج شرق غزة، ملاذًا يظنونه آمنًا من الموت وجحيم الطائرات الإسرائيلية، فجر الإثنين الماضي، قامت طائرات الاحتلال الإسرائيلي بتحويل مدرسة الجرجاوي إلى محرقة جماعية، تصاعد منها الدخان، وخرج منها صراخ مكتوم، ورماد يُخفي ملامح الطفولة.

صواريخ حارقة سقطت على رؤوس نيام، حوّلت الطوابق إلى أكوام رماد، والجدران إلى أشلاء ذكريات.. و من بين الدمار واللهب، خرجت الطفلتان ورد وحنين، تمشيان وسط النيران على أقدام جريحة، بحثاً عن الحياة المفقودة وعن الأهل الموتى.

طفلة تسير وسط النار

“كانت تبحث عن صدر أم تحت الأنقاض، وعن يد أب تُمسك بها وتنهض، لكن كل ما كان حولها هو النار”.

من بين هذا الجحيم، خرجت الطفلة حنين حسن السيد الوادية، ستة أعوام، من وسط نيران تشتعل من حولها.. تمشي على قدميها المحروقتين، وجهها وجسدها الصغير مليء بالحروق، ونظراتها مشوشة تبحث عن أم وأب لن يعودا.. كان صوتها بالكاد يُسمع، جسدها الصغير متفحم، وجهها مذهول.

لم تصرخ، بل همست: “خرجت من تحت البطانية أبحث عن ماما وبابا.. لم أجدهم، لكن سمعت صوت ماما.. ما عرفت وين هيه”، هكذا قالت حنين، بصوت بالكاد يُسمع، في مقطع مصور من داخل مستشفى مكتظ بالناجين. كانت الكلمات بسيطة، لكن وقعها مفجع، كأنها صدى لصرخة طُفلتها من تحت الأنقاض.

كانت تسير وسط الجحيم كما لو أنها تتبع صوتًا في الحلم، تبحث عن دفء اختفى، عن صدر أم كانت معها قبل دقائق، وعن أب وأشقاء غابوا في لحظة لا تنسى.

لم تكن حنين تعرف أنها الناجية الوحيدة من عائلتها.. قُتل والداها ووالدتها وأشقاؤها حرقًا وهم نيام، بعدما سقط صاروخ الاحتلال الإسرائيلي في المكان الذي تحصنوا فيه طلبًا للأمان.

الطفلة حنين مع عمها

 

عمّها الدكتور أحمد الوادية، يقول: إن حنين مصابة بحروق من الدرجة الثانية والثالثة، وإن وضعها الصحي “حرج للغاية”.

ورد.. زهرة أخرى احترق بستانها

الطفلة ورد جلال الشيخ خليل أحد الناجين من مجزرة الاحتلال الإسرائيلي في مدرسة الجرجاوي في غزة

اسمها ورد، لكنها لم تُزهِر.. ضحكت قبل أن تنام بجوار إخوتها، ثم استيقظت على نار تأكل عائلتها واحدًا تلو الآخر.

ولم تكن حنين الوحيدة التي خرجت من بين الركام تحمل وجع عائلة أُبيدت.. على مقربة منها، كانت هناك الطفلة ورد جلال الشيخ خليل، ذات الخمس سنوات، تنتفض في حضن أحد رجال الإنقاذ، تشير بيد مرتجفة إلى النيران خلفها، وتقول بصوت بالكاد يُفهم: “هناك.. أمي، أبي، إخوتي”.

أمها وستة من إخوة ورد احترقوا أمام عينيها.. ووالدها يصارع الموت، ورد نجت من المحرقة جسديًا، لكن من سينقذ قلبها وعقلها من اللهب الذي شاهدته ؟ من سيمنحها الطفولة التي سُرقت منها بلحظة؟ من سيعيد ضحكتها التي أحرقتها النيران؟

“نجونا من القصف، ولم ننجُ من الخذلان”

قصة حنين وورد ليست مجرد مشهدًا مؤلمًا، بل رمز لجريمة كبرى تُرتكب تحت أنظار العالم.. مجزرة مدرسة الجرجاوي أودت بحياة 31 فلسطينيًا بينهم 18 طفلاً و6 نساء، في قصف إسرائيلي وصفه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بأنه “امتداد لسياسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية”.

المدرسة لم تكن قاعدة عسكرية، بل مركزًا مكتظًا بالنازحين.. ووفقًا للمكتب، فإن الاحتلال استهدف أكثر من 241 مركزًا للإيواء منذ بداية العدوان، ما يؤكد أن ما يجري ليس “خطأ عسكريًا” بل نهجًا مدروسًا لمحو ما تبقى من الحياة في غزة.

ورغم فداحة الجريمة، مرّ القصف كما مرت المجازر السابقة: بصمت عربي مريب، ومواقف دولية مخجلة، وإدانات باردة لا توقف نزيف طفل، ولا تحمي حضن أم من نيران جرائم القصف الإسرائيلي.

عندما يُصبح النوم جريمة.. والعالم نائم

في غزة، أصبح النوم مغامرة محفوفة بالموت.. الطفل الذي يضحك قبل أن ينام، قد يستيقظ بلا عائلة، أو لا يستيقظ أبدًا.. الأطفال الذين عاشوا القصف تلو القصف، أصبحوا يحفظون أسماء الطائرات أكثر من أسماء ألعابهم، ويحسبون عدد من فقدوا أكثر مما يعدّون أعمارهم.

حنين وورد ليستا مجرد ناجيتين، إنهما جرحان مفتوحان في جسد الإنسانية، اختبرتا الموت وخرجتا منه وحيدتين، وشاهِدتين على خذلان عالم يرفع شعارات الإنسانية ويدفنها في صمت.. على زمن يُمنح فيه كيان الاحتلال الإسرائيلي حصانة كاملة لارتكاب الإبادة أمام عدسات الإعلام.

نحن لا نموت فقط.. نحن نُنسى أيضًا

في المستشفى، تتلقى الطفلتان العلاج في جناح يفيض بالناجين ممن احترقت وتقطعت أجسادهم.. أطباء مرهقون، أمهات وآباء مفقودون.

لا أحد يسأل عن “ما بعد”.. لا أحد يخطط لإعادة ما سُرق من أعمار هؤلاء الأطفال، لأن في غزة، لا يُعاد شيء.. لا البيوت، لا الأجساد، ولا القلوب المحروقة.

ربما ينسى العالم حنين وورد، وربما ينشغل بخلافات السياسة وصفقات النفط والأسلحة ورسوم ترامب الجمركية.. لكن التاريخ لن ينسى أن طفلتين خرجتا من جحيم مدرسة محترقة، تمشيان على جراحهما، تسألان عن أم اختفت في اللهب.

 

 

 

قد يعجبك ايضا