تحليل/د.ميخائيل عوض/وكالة الصحافة اليمنية//
وجهت أوكرانيا عشية جولة المفاوضات، وبعد تحضير لـ١٨ شهراً ضربةً مهينه لروسيا في أمنها وهيبتها ومكانتها، وهزت الثقة ببوتين وجيشه.
الضربة الأوكرانية متقنة محكمة مؤذية، وكاشفة لإعطاب روسيا، وتخلف بنيتها الأمنية والعسكرية، وترهل عقلها العسكري، وتقادم خططها.
قالها ماركس منذ ؛١٨٧٠ “كمونة باريس الدفاعية موت كلِّ هبةٍ شعبية وكل مقاومة”، وقالها من قبل الإمام علي “ما غزي قوم في ديارهم إلا ذلوا”
وجزمت العلوم العسكرية وخبرة الشعوب بحقيقة؛ أن الهجوم أفضل وسائل الدفاع.
فالحرب كالثورة كتفاصيل الصراع في الحياة، فأضعف الغزلان يجب أن يكون أسرع من أقوى الأسود والا التهم.
كعادة “كهنة المعبد الانجلو ساكسوني” المتداعي، و”صبيان لوبي العولمة” المتسارع الانهزام، وجدوا فيها ضالتهم ونجمتهم للعودة إلى مسارح وحروب المنصات والإعلام. فانتصاراتهم في حروبهم الافتراضية تعوض عن الهزائم في أرض الواقع، وتسهم بطمس رؤية موازين القوى الكلية والبيئات الاستراتيجية التي تقرر نواتج الحروب. فكيف وحرب أوكرانيا هي “العملية القيصرية من خاصرة أوروبا لتوليد العالم الجديد”، بعد أن طال المخاض واستعصت الولادة.
المهوبرون والمهولون والانتصاريون على الشبكات سارعوا إلى نعي روسيا، وكادوا يسقطون بوتين، ويطوبون المهرجين أسياداً، ويهزمون ترمب وينعون سعيه لأمركة أمريكا.
مهلاً أيها المستعجلون لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء!
سبق أن هللتم لتراجع الجيش الروسي، وإخلاء ٦ آلاف كيلومتر، بينما تجاهلتهم أنه اقتطع ١٣٠ ألف كم من أوكرانيا.
ثم أقمتم الدنيا لنجاح الجيش والمرتزقة وخبراء الأطلسي باحتلال ١٠٠٠كم من الأراضي الروسية.
والآن تعجقون الدنيا تنظيراً وأوهاماً.
تذكروا أن الاولى كانت جزءاً من خطة دفاعية انسحب بموجبها الجيش الروسي لكلفة وصعوبة الاحتفاظ بها.
والثانية كانت عمليةً تكتيكيةً جريئة، ومغامرةً بالعلم العسكري كانت نتائجها وكلفتها مهولةً على الجيش الأوكراني وداعميه. ونهضت روسية وحررتها. وجيشها يستولي يوميا على البلدات والمدن الأوكرانية على طول خط المواجهة البالغ ١٠٠٠ كم، واستفاد منها بوتين بالتحفيز وتحسيس الروس بالخطر على دولتهم وثرواتهم وجغرافيتهم.
نعم؛ عملية الأمس متقنة ونوعية، وتهز الثقة بروسيا وجيشها وأمنها، وببوتين وقيادته، لكنها ليست نهاية المطاف، ولا أثر لها في تغيير الاتجاه أو قلب موازين القوى المادية الحاكمة لتقرير نتائج الحرب.
مهلاً يا سادة فلا تضحكوا. ففي الحرب “من يضحك أخيراً يضحك كثيراً”.
في الحروب عملية كهذه ممكنة، وقد حصل أكبر وأخطر منها، وأهم بألف مرة.
لن نستعرض وقائع من التاريخ البعيد، فإليكم عملية الطوفان العجائبية!
فمن غزة، وما أدراكم ما غزة وتصنيفها في موازين القوى التقليدية؟! وبدون علم قيادة حماس التي كانت تفاوض، وبلا إبلاغ محور المقاومة وفصائله، أَعدت عملية اختراق بري في عملية عجائبية، وهاجمت القوة القسامية في وضح النهار أهم خط دفاع محصن ومحمي ومُمَكنَن بأعلى الدرجات، وفي مواجهة دولة إسرائيل المحمية والمدعومة من كل أجهزة الإقليم والعالم المهيمن، واخترقت ودمرت الحصون وأسرَت ضباط قادة.
من غزة وفقط كتائب القسام!
كيف تفترضون أن أوكرانيا والأطلسي والعالم الانجلو سكسوني متحداً في وجه روسيا ولا يستطيعون؟!
سذاجةٌ مفرطة اعتبار روسيا المترامية الأطراف، والحدود البرية الأوسع والأطول، ومحدودة عدد السكان، وتخوض حرباً مع العالم الانجلو ساكسوني عصية على الاختراق الأمني؟!
قارنوا بين كتائب القسام من غزة والطوفان العجائبية والعملية الأوكرانية وتعقلوا!!
حقاً نفذت أوكرانيا عمليةً نوعية أمنية وعسكرية، واستخدمت الذكاء البشري والصناعي في أرقى التجليات، وأصابت الأسد الروسي بجراحٍ ثخينة لكنها ليست قاتلة.
كلفتها وأثرها المعنوي ألف ضعف كلفتها المادية وأثرها العسكري والأمني وتأثيراتها على مسارات الحرب وميزان القوى.
خلقت تحدي للأمن والدفاع والعسكرية الروسية، وكشفت الثغرات القاتلة في البنية والعقلية والأمن والحماية، وفي التخطيط الاستراتيجي، وفهم وإدارة خوض الحرب في جيلها الخامس ومع العالم الانجلو ساكسوني.
سبق لبوتين بجرأته أن أقرَّ بأخطاء استراتيجية ارتكبها وارتكبتها القيادات الروسية.
وأخطأ عندما بدأ الحرب مفترضاً أنها عملية خاصة تكتيكية، ولم يتنبه وقادته إلى أن الأطلسي ولوبي العولمة سيحولها لأول مرة في تاريخ الحروب إلى عالمية وشاملة!
وأخطأ عندما وقع اتفاقاً مع زيلينسكي في إسطنبول عام 2022 بموجبه استسلم زيلنسكي وانسحب الجيش الروسي من تخوم كييف، ثم انقلب بدعم وإسناد أمريكي وأطلسي، وكانت فقط المبالغ التي دفعتها أمريكا ٣٥٠ مليار دولار، تذكروا أن ترمب جباها بـ٥٠٠ مليار في اتفاق المعادن الثمينة الذي وقعه زيلنسكي صاغراً بعد طرده من المكتب البيضاوي وتحت فلاشات الكاميرات.
الخطأ التكتيكي وفي التقدير الاستراتيجي وفهم الواقع واتجاهات المستقبل ممكن، ووقع فيه حزب الله وإيران ومحور المقاومة، ودفعوا أثماناً رهيبة كاستشهاد السيد حسن نصرالله وانهيار النظام السوري وتدمير وإبادة غزة. ومع ذلك ايضاً هنا لم تنتهي الحرب، وميزان القوى الكلي سيقرر نتائجها بهزيمة إسرائيل والعالم الانجلو ساكسوني.
تلقى الأسد الروسي ضربةً مؤلمة وجراحاً عميقة، لكنه لم ينكسر ولا فقد القدرة على الرد بل الردع، وربما أنَّ تغيراً جوهرياً في الاستراتيجيات، وإدخال أنواع جديدة من السلاح وتوسيع الاشتباك وتنويع المسارح والجبهات تنهي الحرب، لا بالتفاوض والمداورة وتدوير الزوايا، بل بهزيمة للأطلسي والعالم الانجلو ساكسوني تستعجل دفنه.
في هذه تصح مقولة “في كل شر خير”.
أعلن زيلينسكي أنه أحاط الإدارة الأمريكية بالأمر، وسبق لترمب أنَّ حذَّر بوتين منذ أيام من أنه “يلعب بالنار”، و لوَّح بأثمان باهظه ستدفعها روسيا وبوتين!
وأعلن وزير دفاع بريطانيا أنها مستعدة للحرب مع روسيا، وجاهر بأن بريطانية تستهدف روسيا بحرب سيبرانية، وقررت ألمانيا تزويد أوكرانيا بأسلحة وبمساعدتها على إنتاج صواريخ تطال عمق روسيا!
تلك معطيات وافرة على أن العالم الانجلو سكسوني منخرطٌ، ويدفع إلى حرب واسعة وربما نووية، واستهداف الطائرات الاستراتيجية والقاذفات التي تعتبر عصب مثلث النووي الروسي ذات معنى ومغزى، وربما هي تحضيرٌ واستعداد، أو لجمٌ لقدرات روسية النووية التي تهدد بها.
دائماً الأعمال ذات الطبيعة الأمنية تكون تحضيرا لأعمال عسكرية نوعية؟
التحديات أمام روسيا باتت أكثر تعقيداً ومنها؛
1- لا خيار إلا الرد، والرد يعني دفع الحرب إلى صعيد أعلى وأكثر سخونة ومخاطرة، وتستطيع روسيا الرد بتكثيف عمليات تدمير البنى التحتية والاستراتيجية والحشود والمعسكرات، وفي هذه برغم خسارة الطائرات لم تثلم قوتها.
2- شن هجوم ساحق لتدمير الجيش الأوكراني، واحتلال مناطق واسعة، وإنجاز المهمة ووضع العالم الانجلو ساكسوني أمام الوقائع المادية القاطعة.
3- ادخال واستعراض أنواع جديدة من الأسلحة ذات القدرات التدميرية الهائلة، لتسريع حسم الحرب وإرهاب الأطلسي وأوروبا ودفعها لوقف التورط والإسناد. فسبق أن صرح بذلك وفاخر بوتين عن امتلاك روسيا لأسلحة نوعية وجديدة وغير معروفة فأزف زمنها، وإلا فمصيرها كسلاح حزب الله وسورية ومدن الصواريخ تحت الجبال التي تدُمرت ان لم تستخدم.
4- توريط بريطانيا وألمانيا علناً بالحرب من خلال وضع تهديدات بوتين السابقة موضع التنفيذ، كي لا تصير تصريحاته كما هي تصريحات قادة ودول محور المقاومة -باستثناء يمن الإيمان والحكمة وغزة الأسطورية-.
5- تفعيل أدوات الحرب الناعمة والأمنية والسيبرانية، واستعراض قوة روسيا ليس في أوكرانيا فحسب بل بإزاء الدول الداعمة والمنخرطة، والتي تحارب روسيا حقاً. ولا يغير في الأمر سياسة النعامة وتجاهل أن المانيا وبريطانيا وبولندا ورومانيا منخرطون حتى النخاع الشوكي بالحرب ومباشرة باستهداف روسيا، ومن غير المنطقي أن روسيا ليس لديها أدوات حرب ناعمة وأمنية وسيبرانية مدمرة.
٩
نرجح أن بوتين ومن خلال التجربة قائد فذ واستراتيجي ومحارب صلب لا يهاب.
نرجح أنه سيرد، وسيكون الرد صاعقاً مفاجئاً ونوعياً مغيراً في أحوال ومسارات الحرب، وتالياً كاسراً للتوازنات العالمية، ويستعجل رحيل الأطلسي والعالم الأنجلو سكسوني المتوحش، وتعطيل القدرة والسلاح والحافزية. فالحرب الجارية الشاملة بلغت حداً تفترض الحزم والحسم ولا بد من خروج مهزوم تغرب شمسه ومنتصر يقود.
المؤكد أن بوتين وقادته وخبرائه درسوا تجربة محور المقاومة وإيران، واستخلصوا العبر وأهمها أن التلكؤ والانتظارية والتفريط بالزمن والقدرات سياسة انتحارية تنتج الهزائم ولا تصنع انتصارات.
بوتين ومنظريه دأبوا على محاولات تفهيم العالم أن الظروف والبيئات وميزان القوى الكلي ناضج لانتزاع العالم من أنياب التوحش.
فهل يفعلها أم يتردد ويتلكأ؟ فتدفع روسيا أثمان مهولة؟!
في الواقع الجاري تجربة يستفاد منها فالحرب الوجودية والمصيرية الجارية دروسها ثمينة، وتفويت الفرص والتفريط بالقدرات نتائجها كارثية.
نستهول جداً أن تغيب عن بال بوتين وقادته واستراتيجييه الدروس وفهم الواقع واختلالات موازين القوى وتوفر الفرصة الذهبية .
اللحظة عصيبة ونوعية، وتضع العالم في أعلى درجات الغليان والخطر.
لابد لليل أن ينجلي.
و”الرطل بدو رطل ونص” وإلا…
وضربة كاسرة للوبي العولمة وادواته في اوكرنيا والاطلسي تطلق عفاريت المستقبل وتمكن ترمب من امريكا وتسوق الترامبية وهذه فرصة بوتين ليسود وتكون روسيا محرك وصانعة في المستقبل.
كاتب ومحلل سياسي لبناني.