المصدر الأول لاخبار اليمن

المعلم عودة الهذالين.. حين يُقتل الوطن برصاصةٍ في وضح النهار

قصة/عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

كان صباحًا عاديًّا من صباحات قريةٍ تُدعى “أم الخير” في الخليل المحتل، حيث تتعانق الأرض مع صبر البدو، وحيث ما تزال الأغاني تخرج من حناجر معلمين وفلاحين لا يعرفون سوى الحرية، في ذلك الصباح الذي يستيقظ فيه البوادي على صوت الريح، ويرتفع فيه غبار الجنوب مع خطوات الماشية في الطرق الوعرة، حمل في طياته مشهدًا آخر..  مشهدًا كُتب بالدم، حيث سقط المعلم والناشط عودة محمد الهذالين شهيدًا.

عودة محمد الهذالين، ابن الحادية والثلاثين، لم يكن نجمًا في وسائل الإعلام، لكنه كان نجماً في سماء قريته.. معلّم في مدرسة “الصرايعة”، ومخرجٌ سينمائيٌ ساهم في صناعة فيلم “لا أرض أخرى” الذي فاز بأوسكار 2025، ولاعب كرة قدم بنكهة البادية، وأبٌ لثلاثة أطفال لم يبلغ أكبرهم السادسة.

لم يكن يحمل بندقية، بل كاميرا وقلمًا وطبشورة وصوت الأرض التي أحبّها.. كان لاعب كرة قدم وناشطًا ومخرجًا سينمائيًا ومعلمًا لأطفال الصرايعة في مسافر يطا.

لكن تلك الأرض خانته.. أو بالأحرى، تُركت لتُداس تحت جنازير الجرافات، وتحترق تحت أقدام المستوطنين.

كان أبًا لثلاثة أطفال، أكبرهم لم يتم عامه السادس بعد.. وكان قلبه متسعًا بحجم وطن، لكن رصاصة واحدة أطلقها مستوطنٌ بدمٍ بارد، مزقت هذا القلب، وأسقطته على ترابٍ علّمه كيف يصمد.

في لحظة واحدة، وبينما كان عودة يحاول منع المستوطن “يانون ليفي” من تجريف طريق القرية، أشهر الأخير مسدسه وأطلق النار.

طلقات باردة، أطلقتها يدٌ ملوّثة، استقرت في صدر الحلم، لتسقط الصورة… ويسقط من صنعها.

سقط عودة، وارتفع الغبار من جديد وصمت الجبل، هذه المرة لم يكن غبار الماشية.. بل كان غبار الرصاصة، وغبار الوطن الذي يبكي أبناءه بصمت.. لم يبكِ عودة، بل ابتسم كما لو أنه يودّع الحياة كما أحبها: شامخة، نقية، حرة.

لكن المشهد لم ينتهِ هنا، بل بدأ جرحًا جديدًا.

الحياة التي اغتيلت

لم تكن الجريمة خفية، كانت موثقة بالصوت والصورة. عودة يُقتل أمام عدسة الكاميرا، وأمام أطفال أم الخير، وأمام مئات الشهود.. لكن رغم الأدلة، رغم الجُرح، رغم الدموع… أفرجت محكمة الاحتلال عن القاتل “يانون ليفي” كمن يربت على كتفه قائلاً: “أحسنت”.

وفي مشهد لا يقل قسوة، داهمت قوات الاحتلال خيمة عزاء عودة، طردت المعزين، اعتقلت ناشطًا أجنبيًّا وصحافيين، واعتقلت ثمانية من أبناء القرية، بينهم أربعة شبان حاولوا الدفاع عن بيوتهم خلال الهجوم الدموي.

الشرط الأخير.. لا تدفنوه في أرضه!

حتى في موته، لم يُمنح عودة السلام، المحتلّ الإسرائيلي لم يكتفِ بقتل عودة، بل اشترط على ذويه – في وقاحة تليق بجريمة الاحتلال – أن يُدفن خارج قريته.. وكأنهم يريدون طمس أثره، دفن ذاكرته، نفيه حتى بعد موته.

لكن العائلة رفضت جملة وتفصيلاً أن يُدفن عودة في مكان لا يعرفه، في أرض لم يخترها. قالت أمه: “هنا وُلِد، وهنا استُشهد، وهنا سندفنه.. ولو تحت ركام البيت”.

دم بلا دية.. وصورة بلا مصوّر

الفيلم الذي ساهم عودة في إنتاجه، ذاك الذي وثّق جرائم التطهير العرقي في مسافر يطا، أصبح مرآة دامية تعكس مصيره.

صانع الصورة قُتل، والصورة نفسها باتت تتيتم، وتُركت لتُعرض في مهرجانات دولية، بينما قاتلها يتجوّل حرًّا.

أكثر من 1430 اعتداء نفّذه المستوطنون خلال ستة أشهر في الضفة، بحسب منظمات حقوقية، ولم يُحاسب أحد، أصبح الدم الفلسطيني بلا ثمن، بلا صدى، كأن هذا الشعب وُلد بلا “دية”، بلا حق، بلا محكمة.

وفي الوقت ذاته، قامت محكمة الاحتلال بالإفراج عن القاتل “ينون ليفي”، رغم أن كل شيء موثق بالصوت والصورة، ورغم أنه مُدرج على لوائح العقوبات الأميركية والأوروبية والبريطانية بسبب قيادته لاعتداءات إرهابية ضد الفلسطينيين.

يسكن هذا القاتل في مستوطنة “ميتريم”، بؤرة غير قانونية أنشأها بنفسه عام 2021 جنوب الخليل، ويملك شركة للهدم والإنشاءات. والمفارقة أن من يهدم بيوت الفلسطينيين بآلياته، يهدم اليوم حياتهم بأعيرته النارية.

“نادي الأسير” وصف قرار الإفراج عن القاتل بأنه تحريض رسمي على قتل الفلسطينيين، و”أمنستي” طالبت بتحقيق دولي عاجل.

لكن، من يسمع؟ من يبكي لطفل لم يعد يجد والده في نهاية اليوم؟

من يحاسب قاتلاً يحمل جرافة ومسدسًا وإذنًا مفتوحًا بالقتل؟

من يعيد لعيني عودة لحظاته الأخيرة؟ أو يعيد لأولاده ابتسامة الأب في ساحة المدرسة؟

وصايا لم تُكتَب

ربما لم يكتب عودة وصيته، لكنه تركها حيّة.. تركها في السبورة التي ما زالت تحمل اسمه، وفي الطريق التي حاول أن يحميها بجسده، وفي الفيلم الذي صار شاهداً على القاتل والمقتول، وفي عيون أولاده الذين سيرثون الوصية.. لا الأرض.

في قرية “أم الخير”، ما زال أطفال عودة يبحثون عن أبيهم في زوايا البيت.. يسألون أمهم: “متى يرجع بابا من المدرسة؟”

ولا أحد يجرؤ على الإجابة.

قد يعجبك ايضا