يتكشف المشهد في غزة اليوم كصورة درامية مروّعة، حيث تتحول المساعدات الإنسانية إلى مسرح للصراع، وتصبح المفاوضات ساحة للمراوغة، بينما يبقى المدنيون المحاصرون هم الضحية الأساسية. وتترجم هذه الكارثة، في سياقها القانوني والإنساني، إلى جريمة حرب ممنهجة، لاسيما وأن التجويع صار أداة قسرية، استراتيجية، تُستخدم لتليين إرادة الشعب الفلسطيني وإخضاعه. إن هذه الممارسات تصطدم بشكل مباشر مع القوانين الدولية التي جرمت استخدام التجويع كوسيلة قتالية. وفي ظل هذا الواقع، يتأزم الموقف في مجلس الأمن، الذي يجد نفسه عاجزاً عن اتخاذ قرارات ملزمة، وذلك بسبب ما يلوح في الأفق من عوائق سياسية، حيث يتم عرقلة أي تحرك جاد، مما يجعل مساعي تحويل تقرير الأمم المتحدة إلى مشروع قرار ملزم أمراً بالغ الصعوبة.
التجويع كسلاح حرب
بالتوازي مع القصف الجوي الذي يمزق الأجساد، وفي سياق التقييد المتعمد لدخول المساعدات كأداة حرب مصممة لإخضاع الشعب وتصفيته ببطء، هناك سلاح صامت لكنه مدمر يُستخدم لإخضاع شعب بأكمله، ألا وهو التجويع فمنذ بدء العدوان، فرض الاحتلال حصاراً برياً وبحرياً وجوياً شاملاً على غزة، وأوقف إدخال الغذاء والماء والكهرباء والوقود.
ورغم أن الاحتلال الاسرائيلي أعلن من بداية عدوانه على غزة استخدام الطعام والشراب كأداة حرب، إلا أنها حاولت إنكار حدوث المجاعة بادعاء إدخال مساعدات محدودة لا تسمن ولا تغني من جوع.
وفي إعلان وصف بالقرار دولي المتأخر بكارثة صنعتها الاحتلال، أعلنت الهيئة الدولية المعنية بمراقبة الجوع في العالم (IPC) الجمعة وقوع المجاعة في محافظة غزة، حيث يواجه أكثر من نصف مليون إنسان مستويات كارثية من الجوع وسوء التغذية الحاد.
بعد 686 يومًا من الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال، جاء الإعلان الأممي عن تفشّي المجاعة في غزة كخطوة هامة لتوصيف حقيقة ما ترتكبه إسرائيل من استخدام التجويع كأداة إبادة وسلاح حرب، فيما يبقى المهم ماذا بعد هذا الإعلان وهل يمكن أن يكون هناك إجراءات فعلية تنقذ أكثر من مليوني إنسان من الموت قصفً أو جوعًا.
وقال التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، المدعوم من الأمم المتحدة، إن أكثر من نصف مليون شخص بغزة يواجهون ظروفا تتسم بالجوع والعوز والموت، وتوقع أن تمتد المجاعة إلى دير البلح (وسط) وخان يونس (جنوب) بنهاية الشهر الحالي، داعيا إلى وقف المجاعة في غزة بأي ثمن، محذرا بأن سوء التغذية الحاد سيتفاقم بسرعة في القطاع حتى يونيو/حزيران 2026.
ذكر التصنيف أن 1.07 مليون شخص آخر (54% من السكان) يواجهون المرحلة الرابعة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد “الطارئ”. ويواجه 396 ألفًا (20% من السكان) المرحلة الثالثة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد “الأزمة”.
وتُوثق تقارير اليونيسف والمنظمات الصحية أن أزمة الغذاء وصلت إلى مستويات كارثية، حيث يواجه الأطفال في جميع أنحاء القطاع خطر المجاعة. وتُشير التقارير إلى أن واحداً من كل ستة أطفال دون سن الثانية في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد، وهو رقم يرتفع إلى 15.6% في الشمال، بينما تبلغ النسبة 5% في الجنوب، مما يثبت أن الوصول الإنساني هو العامل الحاسم في منع المجاعة، وأن منعه هو قرار متعمد. إن هذا الارتفاع السريع والخطير في معدلات الهزال، الذي كان نادراً قبل الحرب، يعكس انهياراً غير مسبوق في النظام الغذائي والصحي.
ضحايا بالجملة
أكدت صحة غزة أن عدد الشهداء منذ حول الاحتلال نقاط التوزيع المحدودة إلى مصائد للقتل في 27 مايو الماضي، 2076 شهيداً وأكثر من 15,308 إصابة، و45 مفقوداً، مع استخدام ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية” – ذات الصبغة الإسرائيلية الأميركية والمرفوضة أممياً – كأداة لفرض معادلة الخضوع والقتل تحت غطاء “العمل الإنساني”. وارتفع عدد الشهداء جراء المجاعة وسوء التغذية إلى 281 شهيداً، من بينهم 114 طفلاً.
في سياق متصل، قالت منظمة ميرسي كور إن تأكيد المجاعة هو “نتيجة مباشرة لأشهُر من القيود المتعمدة على المساعدات وتدمير أنظمة الغذاء والصحة والمياه”، مؤكدة أن لديها مساعدات كافية لـ160 ألف شخص لكنها مُنعت من الدخول.
من جانبها، اعتبرت منظمة كريستيان إيد الدولية أن ما يحدث “غير معقول”، مشيرة إلى أن عائلات في غزة تعاني الإغماء والإعياء الشديد بسبب الجوع، فيما حمّلت منظمة أوكسفام إسرائيل مسؤولية رفض جميع طلبات إدخال مساعداتها، التي تشمل طروداً غذائية عالية السعرات بقيمة 2.5 مليون دولار.
أما منظمة أكشن إيد فقد وصفت ما يحدث بأنه “مجاعة مدبرة بالكامل” و”وصمة عار في جبين الإنسانية”. بدورها شددت لجنة الإنقاذ الدولية على ضرورة فتح جميع المعابر الحدودية، وإقرار وقف دائم لإطلاق النار لضمان تدفق المساعدات، معتبرة أن المساعدات وحدها لن توقف الكارثة “دون قرار سياسي حاسم”.
كما اتهم المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إسرائيل بتعمد صناعة المجاعة، مؤكداً أن الواقع الميداني أسوأ بكثير مما ورد في التقرير الأممي، وأن أكثر من 1.5 مليون إنسان يعانون من مستويات حادة من الجوع.
على الصعيد السياسي، وصف وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي المجاعة بأنها “فضيحة أخلاقية وكارثة من صنع الإنسان”، محملاً “إسرائيل” المسؤولية عن منع دخول الغذاء والدواء.
أما وزير الخارجية الأيرلندي سيمون هاريس فاعتبر ما يحدث “مقززاً وحقيراً”، وأكد أن بلاده ترى في ما يجري إبادة، داعياً الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على إسرائيل وزيادة الدعم لبرامج المساعدات الإنسانية.
من جهته، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش المجاعة في غزة بأنها “كارثة من صنع البشر واتهام أخلاقي وفشل للبشرية”، مؤكداً أن الوضع القائم “لا يمكن أن يستمر دون عقاب”.
وأضاف أن “كلمة جديدة أضيفت إلى جحيم غزة هي المجاعة، وهي ليست مجرد انعدام للغذاء، بل انهيار متعمد للأنظمة اللازمة لبقاء الإنسان”، محملاً “إسرائيل” بصفتها القوة المحتلة المسؤولية الكاملة عن ضمان وصول الغذاء والإمدادات الطبية، ومجدداً الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار وضمان دخول المساعدات دون قيود.
الحراك الشعبي.. قوة دافعة نحو التغيير
في ظل هذا الشلل السياسي والمراوغة الدبلوماسية، يبرز الحراك الشعبي كقوة دافعة ومؤثرة. فالاحتجاجات التي تجتاح عواصم العالم، وتحديداً في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، تعبيراً عن الغضب، وأداة ضغط سياسي ودبلوماسي فعّالة تُظهر أن التحركات الجماهيرية تمتلك قدراً من القدرة على إحداث تحولات في مواقف صُنّاع القرار، وهو ما بدأ يظهر في تغير الخطاب السياسي لبعض الدول كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول العالم.
هذا الوعي المتزايد لدى الرأي العام العالمي، الذي أصبح ينظر إلى سياسة التجويع الممنهج كجريمة لا يمكن السكوت عنها، يمثل انتصاراً يضاف إلى سجل انتصارات السابع من أكتوبر، لاسيما وآن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، والتي تُظهر تزايد المطالب بحل سياسي للقضية الفلسطينية، وبإقامة دولة فلسطينية، تؤكد أن الشارع الأمريكي بدأ يرى القضية من منظور مختلف. إن هذا التحول في الوعي الجماهيري، إن استمر وتصاعد، قد يمثل ورقة ضغط حاسمة لإجبار القوى الفاعلة على تغيير مسارها، والانتقال من مرحلة المراوغة إلى مرحلة الحلول الجذرية.