دروس من السيرة النبوية.. عن أصالة العداء اليهودي للنبي ورواية رهن الدرع
يحيى محمد | وكالة الصحافة اليمنية
شهدت المدينة المنورة، بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، نقطة تحول محورية في مسار الصراع الحضاري. لم تكن هذه الهجرة مجرد انتقال جغرافي، بل كانت إيذانًا بمرحلة جديدة من المواجهة مع العداء اليهودي المتجذر، الذي سرعان ما تطور من مجرد خلاف عقائدي إلى صراع شامل بالقول والفعل. لقد أثارت بعثة النبي، صلوات الله عليه وآله، حسدًا عميقًا في نفوسهم، وهي حقيقة صادمة يرويها القرآن الكريم والسيرة النبوية. هذه الأحداث ليست مجرد قصص من الماضي، بل هي خيوط متشابكة تكشف عن نمط مستمر من المكر والتآمر، يهدف إلى إحباط أي مشروع حضاري يهدد هيمنتهم الراسخة.
اليهود والعداوة المتأصلة
يكشف القرآن الكريم بوضوح عن حقيقة العداء المتأصل الذي أظهره اليهود تجاه النبي محمد صلى الله عليه وآله. لم يكن هذا العداء وليد اللحظة، بل كان تجسيدًا لكراهية عميقة ورفض قاطع للحق. لم يقتصر هذا العداء على مجرد الاختلاف في المعتقدات، بل تحول إلى حرب شاملة تُشنّ بالكلمة، والفعل، والكيد الخفي، في محاولة يائسة لوقف انتشار رسالة الإسلام السامية.
منذ اللحظة التي وطئت فيها قدما النبي المدينة المنورة، بدأت فصول هذه العداوة تتكشف جليًا بعد أن ظلت تحاك مكرًا بالنبي في طفولته وشبابه دون القدرة على النيل رمن، رغم المحاولات. فعلى الرغم من معرفتهم التامة بصفات النبي المذكورة في كتبهم المقدسة، سعى اليهود إلى الكفر به وإنكار نبوته. لم يكن رفضهم نابعًا من جهل، بل كان عنادًا واستكبارًا وخوفًا من فقدان نفوذهم وسلطتهم. لقد لجأوا إلى الكيد والمؤامرات الخبيثة، وعملوا على شق صف المسلمين، وإثارة الفتنة، وتحريض القبائل العربية. كانت تحركاتهم العدائية المتتالية ونقضهم للعهود دليلًا قاطعًا على أن عداوتهم لم تكن مجرد موقف عقائدي، بل تجسدت على أرض الواقع في فعل عسكري وسياسي يهدف إلى القضاء على الدولة الإسلامية الوليدة.
صراع اقتصادي على الهوية
كانت أولى الخطوات العملية في بناء الدولة الفتية هي إنشاء سوق خاص بالمسلمين. حملت هذه الخطوة في طياتها رسالة عميقة حول استقلالية الأمة الناشئة وتأكيد سيادتها الاقتصادية، في مواجهة الهيمنة اليهودية التي كانت تسيطر على التجارة في يثرب آنذاك. كان يهود المدينة، وعلى رأسهم بنو قينقاع، يمتلكون السوق الأكبر، وكانوا يمارسون فيه الغش، والاحتكار، والربا، مما أثر سلبًا على الاقتصاد المحلي.
في خطوة حاسمة، أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنشاء سوق خاص بالمسلمين في منطقة سوق المناخاة، مؤكدًا بذلك على مبدأ الاستقلالية الاقتصادية، ولم يكتفِ النبي بذلك فحسب، بل قام بوضع قواعده وتشريعاته، مستندًا إلى الوحي الإلهي. لقد منع بيع السلع قبل وصولها، وحرّم الغش في الكيل والوزن، ومنع الاحتكار والربا.
كانت هذه التشريعات بمثابة ثورة على الواقع التجاري القائم، وساهمت في تحويل السوق إلى فضاء من العدل والأمان والشفافية، ومما ميّز هذا السوق حرصه صلى الله عليه وآله وسلم على مراقبته بنفسه، للتأكد من التزام التجار بتعاليم الإسلام، وهي ممارسة أصبحت أساسًا لدور “المحتسب” في الحضارة الإسلامية، الذي يضمن تطبيق المعايير الأخلاقية والاقتصادية في الأسواق.
بطلان الرواية في سياقها الاقتصادي والسياسي
إن رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رهن درعه عند يهودي تتعارض بشكل صارخ مع السياسة الاقتصادية الحكيمة التي أسسها في المدينة المنورة؛ لقد كانت أولى خطواته في بناء الدولة الفتية هي إرساء قواعد سوق عادلة تكسر شوكة الهيمنة الاقتصادية التي كان يفرضها اليهود آنذاك على قبائل الجزيرة العربية. هذا الإجراء التنظيمي التجاري يمثل عملًا استراتيجيًا يُعلن عن استقلال الأمة الناشئة ورفضها للخضوع لنظام فاسد مبني على الغش، والربا، وأصناف الابتزاز والانتهازية التي كان يمارسها يهود تلك الفترة. وبالتالي، فكيف يُعقل أن القائد الذي اتخذ هذه الخطوة الجذرية يضع نفسه في موقف ضعف أمام من حاربهم اقتصاديًا؟ إن هذا التناقض الجوهري بين الفعل الاستراتيجي والحدث المفرد يُضعف من مصداقية الرواية بشكل كبير، ويجعلها محل شك وتساؤل.
إن رهن الدرع، التي هي رمز العزة والمنعة والقوة، لدى عدو متربص، لا يُمكن أن يكون تصرفًا حكيمًا من قائدٍ أُرسل ليُعلم البشرية الكرامة والعزة. لاسيما وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في مواجهة هذه المؤامرات غافلًا، بل كانت سياسته تتمثل في المواجهة الحكيمة التي لا تهاون فيها؛ فقد أقام سوق المسلمين ليُحرر الأمة من الهيمنة الاقتصادية اليهودية، وأجلى القبائل التي خانت العهود، وأفشل كل المؤامرات التي استهدفت وحدة المسلمين وكيانهم.
هذا المسار الحاسم في التعامل مع العدو يجعل من فكرة رهن الدرع، التي هي رمز المنعة والقوة، لدى هذا العدو، أمرًا مستبعدًا ومخالفًا للمنطق النبوي السليم. إذ كيف يمكن لنبيٍ، قضى حياته في مواجهة ألاعيب ومؤامرات فئةٍ عُرفت بغدرها ونقضها للعهود، أن يختم مسيرته برهن درع أمته، ورمز عزتها وقوتها، عند عدوٍ أمرته العناية الإلهية بإعداد العدة لمواجهته؟ هذا التساؤل العميق يفتح الباب أمام تحليلٍ دقيق لتلك الرواية التاريخية، التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة مع جوهر الرسالة النبوية ومبادئها السامية.
الفعل ببساطة يُشير إلى خضوعٍ غير مقبول يتنافى مع جوهر الرسالة، التي جاءت لتحرير الإنسان من كل أشكال الاستغلال والتبعية. إن هذا الفعل، لو صح، يُمكن أن يُفسر على أنه تسليم لزمام الأمر للعدو، وهذا ما لا يُمكن نسبته إلى نبي أتى ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويقودهم إلى العزة والكرامة.
تضارب الرواية مع الحقائق السماوية
تُبرز آيات القرآن الكريم عداوة اليهود للمؤمنين بأنها “أشد العداوة”، وتكشف عن مكرهم وخبثهم المستمرين، وهذا التحذير الرباني يُشكل أساسًا راسخًا لفهم طبيعة العلاقة معهم. فهل يُمكن لنبيٍ أُرسل ليُطبق أوامر الله أن يتجاهل هذا التحذير الإلهي ويدخل في تعاملٍ يُمكن أن يُشير إلى ثقةٍ أو اعتماد على طرفٍ حذّره منه الوحي الإلهي؟
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُدرك تمامًا طبيعة هذا العداء المتأصل، وقد عمل على مواجهته بكل حكمة وبصيرة. بناء السوق، وإخراج القبائل الغادرة، وتوحيد صف المسلمين، كل هذه الأفعال تُشير إلى أنه كان يُدرك جيدًا خطورة الموقف وتبعاته. ولعل الرواية التي تُشير إلى رهن الدرع، تُقدم صورة تتناقض مع هذه الحكمة النبوية، وتُلقي بظلال من الشك على فهم النبي لرسالته وموقفه من خصومه، وهذا ما لا يُمكن قبوله بأي حال من الأحوال؛ فمهمة النبي كانت إنقاذ البشرية من “خميرة الشر” التي تمثلها هذه الفئة، وليس التعاون معها أو الرضوخ لمخططاتها.
ضرورة التمحيص في السرديات التاريخية
ينبع إصرارنا على بطلان هذه الرواية من إيماننا الراسخ بأن السيرة النبوية ليست مجرد سجل لأحداث تاريخية، بل هي تجسيدٌ لمبادئ وقيم عليا لا تتناقض أبدًا. إن قبول رواية رهن الدرع يعني قبول وجود تناقض في سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما لا يمكن أن يصح أو يُعقل. إن الحقائق العقلية والشرعية تُشير إلى أن هذه الرواية لا تتسق مع حقيقة الرسالة النبوية، ولا مع عزة النبوة وكرامة الأمة الإسلامية، وتمحيصنا للروايات التاريخية هو واجبٌ ديني وعقلي، يُحتم علينا أن نرفض كل ما يُمكن أن يُنتقص من عظمة الرسالة أو يتناقض مع أهدافها السامية ومقاصدها النبيلة.
رهن الدرع، التي هي رمز العزة والمنعة، لدى عدو متربص، لا يُمكن أن يكون تصرفًا حكيمًا من قائدٍ أُرسل ليُعلم البشرية الكرامة والعزة. وهذه الرواية تُقدم صورة تتناقض مع حكمة النبوة، وتُلقي بظلال من الشك على فهم النبي لرسالته وموقفه من خصومه، وهو أمر لا يليق بمكانته العظيمة.
آراء هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء وكالة الصحافة اليمنية