فتاوى التحريم ومعارك المنع.. القصة الكاملة لحرب الوهابية على المولد النبوي
محمد شرف | وكالة الصحافة اليمنية
المولد النبوي الشريف ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل شعيرة دينية وروحية عميقة تعبر عن محبة المسلمين وولائهم لرسول الله محمد، صلوات الله عليه وعلى آله، وتمسكهم برسالته الخالدة.
ومنذ قرون طويلة، اجتمع المسلمون على إحياء هذا اليوم العظيم تعظيمًا للنبي، صلوات الله عليه وآله، وفرحًا بمولده المبارك. لكن مع ظهور الحركة الوهابية في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، بدأ استهداف مباشر لهذه الشعيرة، حيث شنت الوهابية حملة تكفير وتشويه ضد المولد وضد كل من يحييه، متذرعة بشعارات “التوحيد” و“محاربة البدعة”، بينما الحقيقة أنها كانت تسعى لفصل الأمة عن نبيها، وضرب أهم رابط عاطفي وروحي يربط المسلمين برسولهم، صلوات الله عليه وعلى آله.
محمد بن عبد الوهاب ونشأة دعوته
محمد بن عبد الوهاب (1703–1792م) ولد في نجد، ونشأ على فكر متأثر بآراء ابن تيمية، لكنه قدمها بروح أكثر تصلبًا وعداءً، حيث ركز على تكفير المسلمين وتجريم شعائرهم الدينية وممارساتهم الروحية، ومن ذلك الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
وحول تحالفه مع آل سعود، تحولت دعوته إلى مشروع دموي توسعي، استخدمت فيه السيوف لهدم القباب والمراقد، ومحو المظاهر الدينية التي تعبر عن حب الرسول وآله. والحقيقة أن دعوته لم تكن حركة إصلاح ديني كما ادعى، بل مشروع تكفيري استهدف كل المظاهر الشعبية والروحية المرتبطة برسول الله، صلوات الله عليه وعلى آله، وتحالفه مع آل سعود لم يكن إلا وسيلة لفرض آرائه بالسيف والقوة، مما أسس لمرحلة من القمع الديني والدمار الثقافي.
النصوص التحريم والتجريم
استندت الوهابية إلى بعض الأحاديث النبوية، مثل: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) و(كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
لكنهم فسروا هذه النصوص تفسيرًا جامدًا ومنغلقًا، فجعلوا من كل ما لم يفعله النبي، صلوات الله عليه، بدعة محرمة، وجعلوا من الاحتفال بالمولد النبوي ضلالة وشركًا، بينما هو في الحقيقة من أعظم القربات إلى الله.
في مقابل هذا التشدد الوهابي، وقف جمهور علماء الأمة مؤكدين مشروعية الاحتفال بالمولد واستحبابه. فالشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف استحسنوا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وأجمعوا على أن المولد شعيرة محبة وتقوى، وأظهرت هذه المواقف أن الوهابية تبنت رأيًا شاذًا ومنعزلًا عن جمهور الأمة.
فتاوى الوهابية التكفيرية والتحذيرية
أصدرت الوهابية فتاوى صريحة بتكفير وتحريم المولد، ووصفوا المحتفلين بالمولد بأنهم “مبتدعة” و“مشركون”، واعتبروا المولد “شركًا أكبر” يخرج من الإسلام، وهو تطرف لم يقل به أي مذهب إسلامي. وتحول هذا الفكر إلى ممارسة قمعية حين تحالف الوهابيون مع آل سعود، فهدموا الأضرحة في مكة والمدينة، ومنعوا أي مظهر للاحتفال بالمولد، في محاولة لطمس هوية الأمة الروحية.
المنع الرسمي في مناطق سيطرة الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة
الدولة السعودية الأولى (1744-1818م)
بعد تحالف محمد بن عبد الوهاب مع محمد بن سعود، وامتداد نفوذهم إلى الحجاز، صدرت قرارات صارمة بمنع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
سنة 1803م عند دخول الوهابيين مكة، ألغوا كل الطقوس المرتبطة بالمولد، ومنعوا التجمعات التي كانت تقام في الحرم المكي.
سنة 1805م عند دخول المدينة المنورة، فرضوا الحظر الكامل على الموالد، وهدموا القباب التي كانت تزار في ذكرى النبي ﷺ، بما في ذلك المعالم التاريخية المرتبطة بأهل البيت والصحابة.
المؤرخ الوهابي عثمان بن بشر يذكر في عنوان المجد في تاريخ نجد أن الدولة منعت “الموالد والبدع” بشكل رسمي، وجعلت ذلك جزءًا من منهجها.
الدولة السعودية الثانية (1824-1891م)
بعد سقوط الدولة الأولى على يد محمد علي باشا العثماني، عاد آل سعود بدعوة وهابية أشد تصلبًا، واستمر المنع الرسمي للمولد، حيث كانت الخطب والدروس تحذر الناس علنًا من المشاركة فيه. وكانت أي محاولة لإحياء المولد تواجه بالعقوبات، إما بالسجن أو بالتشهير الديني باعتبار المحتفل “مبتدعًا”.
الدولة السعودية الثالثة (1932 – الحاضر)
مع تأسيس المملكة العربية السعودية الحديثة على يد عبد العزيز آل سعود، تم إدماج الفكر الوهابي رسميًا في مؤسسات الدولة. وصدرت فتاوى من هيئة كبار العلماء بتحريم المولد وتجريمه، وأصبح تدريس هذا الموقف جزءًا من المناهج التعليمية. وتم القضاء نهائيًا على كل مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في مكة والمدينة اللتين كانتا تاريخيًا مسرحًا لأعظم الاحتفالات بالمولد. وحتى اليوم، يعتبر المولد في المملكة العربية السعودية ممنوعًا رسميًا، وأي محاولة لإحيائه قد تواجه بالعقوبات والحبس.
شواهد عن المنع الوهابي الرسمي
هدم الأضرحة في مكة والمدينة: المؤرخ عثمان بن بشر (أحد مؤرخي الدعوة الوهابية) يذكر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد أن الوهابيين عند دخولهم مكة (1803م) والمدينة (1805م) أزالوا كل القباب والمزارات، ومنعوا “الموالد والبدع”.
الفتاوى الوهابية:
في مجموع فتاوى ابن باز (13/173): “الاحتفال بالمولد بدعة منكرة لا أصل لها في الإسلام”.
في فتاوى اللجنة الدائمة (ج 3/ص 54): “الاحتفال بالمولد بدعة ضلالة، لا يجوز إقامته ولا المشاركة فيه”.
شهادة الرحالة: الرحالة الأوروبي “جون لويس بوركهارت” الذي زار مكة في أوائل القرن التاسع عشر كتب: “الوهابيون ألغوا الاحتفال بمولد النبي، ومنعوا كل ما يرتبط به من مظاهر الفرح”.
طمس المظاهر الاجتماعية
القمع الثقافي: وثق المؤرخ حسين خلف الشيخ خزعل في كتابه تاريخ الجزيرة العربية واحتلال البريطانيين لها أن الوهابية حرموا الأهازيج الشعبية والقصائد النبوية التي كانت تتلى في المولد، واعتبروها شركًا.
التضييق على الشيعة في الأحساء والقطيف: الباحث جعفر الشهري في كتابه الأحساء في عهد الملك عبد العزيز يذكر أن السلطات الوهابية منعت مواكب المولد، وفرضت رقابة على حسينيات الشيعة لمنع قراءة المدائح.
حملات إعلامية وتعليمية
لم تكتف الوهابية بالمنع الرسمي داخل الجزيرة العربية، بل أطلقت حملات إعلامية وتعليمية منظمة هدفها تصدير موقفها المتشدد إلى العالم الإسلامي كله، في محاولة لفرض رؤيتها على بقية الأمة.
الحملات الإعلامية:
منذ بدايات القرن العشرين، ومع اكتشاف النفط وتدفق الأموال، بدأت السعودية بتمويل مطابع ومؤسسات إعلامية لنشر الكتب الوهابية التي تهاجم المولد النبوي وتصفه بـ“البدعة” و“الضلالة”. ووزعت بالملايين مجانًا مؤلفات ابن باز وابن عثيمين، وكلها تحرم الاحتفال بالمولد النبوي وتجرمه وتكفر المحتفلين به.
كذلك في مواسم الحج والعمرة، استغل الدعاة الوهابيون وجود ملايين المسلمين من مختلف البلدان، فوزعوا كتيبات ومنشورات ضد المولد، لتشويه صورته وربط المحتفلين به بالشرك.
وخصصت وسائل الإعلام السعودية الرسمية (الصحف، الإذاعة، ثم القنوات الفضائية لاحقًا) برامج وخطبًا لشيطنة المولد وإقناع المسلمين أن “الاحتفال به مروق عن الدين”.
الحملات التعليمية:
مع تأسيس الجامعات السعودية مثل جامعة الإمام محمد بن سعود والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أصبحت مقررات العقيدة تدرس الموقف الوهابي من المولد، وتصنفه صراحة كـ“بدعة محرمة”. كما تم إرسال بعثات من “خريجي الجامعات الوهابية” إلى آسيا وأفريقيا، حيث أنشأوا مدارس ومعاهد دينية تنشر الفكر المناهض للمولد. ووزعت “ملايين الكتب والمناهج الممولة سعوديًا في مصر والسودان والمغرب وإندونيسيا وماليزيا ونيجيريا… كلها تحذر من المولد وتصفه بـ”الوثنية الجديدة”.
أثر الحملات
في بعض البلدان الإسلامية، نجحت هذه الحملات في إثارة الانقسام الداخلي، حيث أصبح هناك تيار متشدد يهاجم المولد متأثرًا بالوهابية، مقابل تيار شعبي واسع يتمسك به. وفي بلدان أخرى كالمغرب ومصر والعراق وإيران، لم تفلح هذه الحملات في القضاء على المولد، بل أدت إلى رد فعل عكسي عزز من التمسك بالمناسبة باعتبارها هوية روحية وثقافية في مواجهة الفكر الوهابي الوافد.
ارتباط الموقف بالقوى الاستعمارية
الحقيقة أن محاربة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من قبل التيار الوهابي، خاصة في نسخته الرسمية المرتبطة بالنظام السعودي، ليست قضية فقهية معزولة عن سياقها التاريخي والسياسي. إنها أداة متعددة الأوجه استخدمت لفرض وصاية فكرية تسهل السيطرة السياسية الداخلية، وتمهد الطريق لأداء دور وظيفي إقليمي ودولي يتماشى مع مصالح القوى الاستعمارية. كذلك لم يكن الموقف من المولد فقط شأنًا محليًا، بل ارتبط أيضًا باستراتيجية توسعية حيث استخدم خطاب “محاربة البدعة” لتبرير الحملات العسكرية التي شنها آل سعود على مناطق أخرى، بحجة “تطهيرها من الممارسات المنحرفة”.
إلى جانب ذلك، فقد وظفت الدولة السعودية هذه العقيدة للتأثير على الهوية الإسلامية، وفرض رؤيتها على نطاق واسع عبر المؤسسات التعليمية والدعوية، بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية في إطار دورها الوظيفي المرسوم لها من هذه القوى.
أداة هدم
التقاء المصالح مع الاستعمار:
الدول الاستعمارية، خصوصًا بريطانيا ثم الولايات المتحدة، وجدت في الوهابية فرصة لتفكيك وحدة العالم الإسلامي، وإضعاف الروابط الروحية بين المسلمين. فمن خلال تحريم الممارسات الشعبية الجامعة مثل المولد، جرى ضرب واحدة من أقوى أدوات التماسك الاجتماعي والديني، ما سهل على القوى الاستعمارية تعزيز الانقسامات المذهبية والطائفية.
خدمة المشروع السياسي الغربي:
تقديم الوهابية كـ“الإسلام الصحيح” سهل للغرب دعم هذا التيار بوصفه نموذجًا يمكن أن يسيطر على المجتمعات ويضبطها، مع إضعاف أي توجهات تحررية أو مقاومة تستند إلى البعد الروحي والثقافي للإسلام. والنتيجة تحولت الوهابية إلى أداة مزدوجة: تخدم الداخل عبر فرض الطاعة للنظام السياسي، وتخدم الخارج عبر تهيئة البيئة المناسبة لمشاريع الهيمنة الاستعمارية على المنطقة.
رمز لمحبة النبي
رغم أكثر من قرن من محاولات التيار الوهابي لطمس معالم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، باعتباره “بدعة” تخالف مشروعهم التكفيري، إلا أن الواقع أثبت أن هذه الجهود لم تستطع أن تلغي مكانة المولد كرمز لمحبة رسول الله، صلوات الله عليه وعلى آله. فقد استمرت المجتمعات الإسلامية في إحياء ذكرى المولد رغم حملات التشويه والتجريم، ما يعكس قوة الرابطة العاطفية والدينية التي تربط المسلمين بالنبي، صلوات الله عليه وعلى آله.
ويتضح أن محاولات الوهابية لطمس المولد النبوي لم تنجح، بل على العكس زادت من رمزيته، حتى صار علامة على تمسك الشعوب بمحبة النبي ومقاومتها لأي وصاية فكرية أو سياسية. وما نراه في اليمن اليوم شاهد حي على أن هذه المناسبة لم تعد مجرد “ذكرى دينية”، بل تحولت إلى فعل مقاومة ثقافية وروحية يعكس عمق ارتباط الأمة بنبيها الكريم، صلوات الله عليه وعلى آله.