المصدر الأول لاخبار اليمن

المولد النبوي.. جدلية التاريخ وعظمة الموقف!!

رؤية تحليلية| وكالة الصحافة اليمنية

يُجسّد المولد النبوي الشريف في قلوب اليمنيين قصةً متجددةً ومعقدة، تنسج فصولها بين عمق التاريخ، وديناميكية الحاضر، وتحديات المستقبل. حكاية تتجاوز سيمفونية الاحتفال فتصبح مرآةً تعكس الهوية، والصمود، والتلاحم، وسردية تكشف عن عمق الانقسام والتجاذب السياسي.

عظمة المولد النبوي في قلوب اليمنيين لا تنبع فقط من كونه مناسبة دينية فحسب، فهو تراث متجذّر في وجدان الشعب، يربطه بتاريخه منذ لحظة استقبال الأنصار للنبي في المدينة. هذا الارتباط الفريد يمنح الاحتفال بعداً وجدانياً لا يضاهى، حيث يرى اليمنيون أنفسهم أول من احتفل بقدوم الرسول، مما يمنحهم شعوراً بالفخر والانتماء. هذا الشعور يتحول إلى فعلٍ جماعي، حيث تتزين المدن بالأضواء الخضراء واللافتات والألعاب النارية، وتغدو الأجواء العامة مزيجاً من البهجة والروحانية، في مشهدٍ يعكس تمسّكاً بالهوية الإيمانية رغم قسوة الظروف.

 

عنصر المفاجأة.. المولد كرمز للمقاومة

لم يكن أحد يتوقع أن يصبح المولد النبوي في اليمن رمزاً للمقاومة، لكن هذا هو عنصر المفاجأة الذي أضاف بُعداً جديداً للحكاية. ففي ظل واقع عربي وإسلامي مُتخاذل، حيث تتقارب أنظمةٌ مع العدو الصهيوني وتتجاهل قضايا الأمة، يخرج اليمن ليقول كلمته. إن الهتافات التي ترتفع في الساحات “الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل” تتجاوز في مضامينها مفهوم الشعارات لتصبح إعلاناً لموقف صريح بأن حب النبي يعني الثبات على نهجه في مناصرة المستضعفين، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني.

هذا المشهد يُزعج الأعداء، لاسيما وأنهم يدركون أن هذا الاحتفال بات يجسد وعياً متجدداً يربط الأمة بقائدها، ويحول الشعور الوجداني إلى زخم تعبوي، يعلن أن اليمن صامدٌ في وجه الحصار والمؤامرات، وأنه حاضرٌ بقوة في معركة الأمة المصيرية. المولد النبوي في اليمن بالفعل أصيح يُجسّد هذا التحول الدرامي: من مجرد ذكرى دينية إلى قاعدة صلبة لمشروع تحرري إقليمي، يُعيد الاعتبار لشخصية النبي كقائد مقاوم وموحد، ويُرسخ مبدأ أن قضية فلسطين جزء لا يتجزأ من العقيدة.

 

محطة سنوية لتجديد العهد

تتجذر المناسبة في وجدان اليمنيين وتراثهم منذ قرون طويلة، إذ تشير المصادر إلى أن هذه العادة تعد موروثاً متجذراً في الذاكرة الشعبية والتراث اليمني. يعود تأصيل هذا الاحتفال في الذاكرة اليمنية إلى لحظة تاريخية فارقة، حين استقبل الأنصار اليمنيون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة بالأهازيج والأفراح، مرددين الأبيات الخالدة “طلع البدر علينا…”. هذا التجسيد التاريخي للاحتفاء بالنبي منذ زمنه يمنح المناسبة في اليمن بعداً فريداً، حيث يرى اليمنيون أنفسهم أول من احتفل بقدومه وهم أحياء، مما يعزز ارتباطهم بهويتهم كـ “أنصار للنبي”.

المولد النبوي في اليمن يتجاوز كونه مجرد ذكرى تاريخية ليصبح مناسبة جامعة، تتشارك فيها مختلف فئات المجتمع، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، يتشكل في جوقة وعي جمعي يجسد الحب والولاء لرسول الله.

 

التقاء الإيمان بالسياسة

مع حلول الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام، تتدافع إلى الساحات اليمنية، وفي مقدمتها ميدان السبعين في صنعاء، في هذا اليوم الأغر، بحور بشرية تموج بالملايين، في مشهدٍ لا يمكن تفسيره إلا بحب متجذر. هذه الحشود لا تحضرها فئة معينة، وإنما تضم كل طوائف وفئات ومكونات المجتمع اليمني رجالاً أطفالاً وشيوخاً، بل وهناك ساحات تخصص للنساء. الكل يجتمع في تظاهرة إيمانية تجسد وحدة الصف.

تتعدد المظاهر الاحتفالية بالمولد النبوي في اليمن، وتتداخل فيها الأبعاد الروحية والاجتماعية والثقافية بشكل لافت، لتشكل نسيجاً احتفالياً يعكس خصوصية المجتمع اليمني. إذ تتخذ مظاهر الاحتفال طابعاً جماهيرياً ورسمياً منظماً، حيث تتزين المدن اليمنية بشكل استثنائي. تُغطى العاصمة صنعاء ومدن أخرى بآلاف الأضواء الخضراء والبيضاء، وتُعلق اللافتات التي تحمل عبارات التهنئة والمدائح النبوية. هذا التزيين البصري للمدينة لا يمثل مجرد إظهار للفرح، بل يكتسب دلالة أعمق في ظل الظروف الراهنة. في سياق العدوان والحصار، تتحول هذه الأضواء إلى رسالة صمود وتحدٍ، تؤكد أن الشعب اليمني لن يطفئ نور حبه للرسول صلوات عليه وآله وسلم مهما كانت الصعاب. هذا الفعل الاحتفالي يعبر عن تمسك اليمنيين بهويتهم الإيمانية رغم التحديات السياسية والاقتصادية، مما يجعل منه رسالة تحدٍ واضحة.

وعلى صعيد المهرجانات، تُنظم فعاليات جماهيرية ضخمة في الساحات العامة، أبرزها في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء. هذه الفعاليات تشهد حشوداً مليونية، وتتخللها كلمات وخطب تستعرض السيرة النبوية وتحث على الاقتداء بها، إلى جانب الفقرات الإنشادية والمسابقات الثقافية.

كما تشارك المؤسسات المختلفة بفعالية في الاحتفالات، فالمساجد تشهد لقاءات خطابية وإنشاديه وحلقات ذكر ومحاضرات، غالباً ما تُعقد قبل صلاة المغرب. وفي المدارس، تُنظم فعاليات خاصة تتضمن مسابقات ثقافية وأناشيد دينية ومحاضرات تربوية، بهدف غرس حب النبي في نفوس الأجيال الجديدة. أما في الجامعات، فتقام مهرجانات ثقافية كبرى، مثل مهرجان الرسول الأعظم في جامعة صنعاء، الذي يتضمن مسابقات في الإنشاد والشعر والمسرح، مما يتيح الفرصة للمواهب الشابة للتعبير عن حبها للنبي. تُعتبر هذه الفعاليات التي تُنظمها المؤسسات الحكومية والشعبية بمثابة تأكيد على أهمية المناسبة ودورها في تعزيز الهوية الوطنية والإيمانية.

 

مظاهر متنوعة لغاية واحدة

تتجاوز الاحتفالات الجانب الرسمي لتشمل طقوساً اجتماعية متوارثة تعكس قيم التكافل والمودة في المجتمع اليمني. من أبرز هذه العادات، ذبح الأغنام وتوزيع لحومها على الفقراء والمساكين. كما يتم إعداد موائد الطعام الكبيرة وتقديمها للضيوف، وفي بعض المناطق، تُفتح الفنادق والمنازل مجاناً لاستقبال الوافدين من المناطق المجاورة. هذه العادات تجسد البعد الاجتماعي العميق للمناسبة، حيث تتحول ذكرى المولد إلى “أيام التساوي بين الناس”. هذا المفهوم يعكس تجسيداً عملياً لقيم الرحمة والإحسان التي جاء بها النبي، ويحول الاحتفال من مجرد مناسبة دينية إلى حدث يوطد الروابط الاجتماعية ويعزز التراحم بين أبناء المجتمع.

وتُعد المدائح النبوية والأناشيد جزءاً لا يتجزأ من الاحتفال، حيث تُنشد القصائد التي تتضمن فضائل وصفات النبي. هذه المدائح تنشد كوسيلة للتعبير عن الشوق والمحبة للنبي، وتُعد اليمن من أبرز الدول في إنتاج هذه الموالد والأناشيد التراثية. على الصعيد الأسري، تشمل العادات شراء ملابس جديدة للأطفال، وتبادل الأطعمة، وإقامة حلقات الذكر داخل البيوت، مما يضمن انتقال هذا الموروث من جيل إلى جيل.

على الرغم من أن لكل محافظة في اليمن طقوسها الاحتفالية الخاصة، فإن هذه المظاهر المتنوعة تجتمع جميعها في هدف واحد: إحياء ذكرى النبي محمد. هذا التنوع في المظاهر مع التوحد في الغاية النهائية يعزز فكرة أن المولد النبوي هو مناسبة جامعة للهوية اليمنية، لا تقتصر على فئة أو منطقة معينة. الاحتفال يجسد الالتفاف الجماعي حول محبة النبي، في إطار يجمع بين الروحانية وحب الوطن.

على سبيل المثال، لا الحصر، تتألق كل محافظة يمنية بلمساتها الخاصة في إحياء المناسبة، فبينما تتجه العاصمة صنعاء نحو الاحتفالات المليونية الضخمة، تتميز حضرموت بطابعها الصوفي، وتشتهر الحديدة بتراثها التهامي الفريد، وتبرز تعز بتنوعها الثقافي والاجتماعي.

في صنعاء، تكتسب الفعالية المركزية في ميدان السبعين أهمية خاصة، حيث تجمع الملايين في مشهد مهيب يعكس التفاف الشعب حول قضية دينية ووطنية في آن واحد. أما في حضرموت، فتبرز الاحتفالات بطابعها الصوفي العريق، خاصة في مدينة تريم التاريخية، التي تُعرف بكونها مهد الطرق الصوفية. تُنظم مواكب “الزفة” والرقصات التراثية، وتُقام حلقات الذكر وقراءة السيرة النبوية في مساجدها القديمة كمسجد المحضار. هذه المظاهر تُظهر أن الاحتفال ليس مجرد حدث سياسي، بل هو جزء من المنهجية الروحانية لأهلها، ويعكس تمسكهم بالنهج الديني المعتدل.

وتتميز محافظة الحديدة بطقوسها الاحتفالية الممزوجة بالتكافل الاجتماعي والتزاور بين الأسر. وتُعد مدينة زبيد فيها معلماً بارزاً، حيث يشتهر مسجد البرم بكونه يحتضن “شعرة النبي”. يمثل هذا الاعتقاد دلالة فريدة على عمق الارتباط الروحي للناس بآثار النبي. فبصرف النظر عن الجدل الفقهي حول جواز التبرك بآثار النبي. هذا الموروث الشعبي يُظهر أن الاحتفال في هذه المنطقة يتجاوز مجرد إحياء الذكرى إلى الشعور بالبركة والقرب من النبي.

وفي تعز، يُقام احتفال كبير في منطقة يفرس بمديرية جبل حبشي يستمر لأسبوع كامل، ويتميز بتنظيم مبادرات إحسان لتوزيع المساعدات على الأسر المحتاجة، مما يربط المناسبة بالعمل الخيري والإنساني. أما في مأرب، فتبرز عادة ذبح الأغنام وتوزيعها على الفقراء والمساكين كعادات متوارثة منذ مئات السنين.

 

التوظيف السياسي المنبوذ

على الرغم من أن المظاهر تبدو دينية بحتة، إلا أن جمالية المشهد تكمن في أن هذا التجمع العفوي والوجداني لم يسلم من التوظيف السياسي، إذ أصبح المولد النبوي في اليمن يشكل مفارقة معقدة؛ فبينما ظل مناسبة جامعة تعزز التلاحم وتتجاوز الانقسامات الاجتماعية، يتحول في العقود الأخيرة إلى ساحة للجدل الفقهي والتوظيف السياسي.

فرغم جذور الاحتفال العميقة، لم يسلم من الجدل. إذ ترى بعض التيارات الدينية، وعلى رأسها التيار السلفي، أن الاحتفال “بدعة” لم يرد فيها دليل شرعي، وأنها لم تُعرف في عصور الصحابة والتابعين. هذا الرأي الفقهي، الذي أثّر بشكل كبير على طبيعة الاحتفال، حيث تشير المصادر إلى أن هذه الانتقادات لم تكن منتشرة تاريخياً في اليمن، وأنها بدأت في الظهور والتأثير بشكل ملموس بعد حرب عام 1994م، بالتزامن مع انتشار ما يوصف بـ “المد الوهابي”. هذا التحول من القبول الشعبي التام إلى حالة الجدل يدل على أن الخلاف ليس دينياً خالصاً، بل هو نتاج لتغيرات فكرية وسياسية دخيلة على الموروث، وقد أثرت على الموروث الثقافي للمجتمع.

 

الخلاصة.. المولد محطة وعي

بعيداً على تلك الجدلية التي لا يبدو الخاسر فيها سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم أن يكون في المنفى وخارج التاريخ، يبقى الاحتفال بالمولد النبي ذا رابط وثيق عميق يربط الماضي بالحاضر. الحشود المليونية التي تملأ الساحات، والأعلام الخضراء التي تزين الشوارع، لم تعد شكل من مظاهر الاحتفالية، بل أصبحت إعلاناً صريحاً بأن اليمن لم ينكسر، بل يزداد قوة وصلابة. هذه المناسبة تحولت إلى منبر لإعلان التمسك بالهوية، ورفض مشاريع التطبيع، والتأكيد على أن فلسطين جزء لا يتجزأ من العقيدة. وهكذا، يصبح المولد النبوي في اليمن مثالاً حياً على قوة التراث في مواجهة التحديات، وعلى قدرته على الحفاظ على الروح الجمعية للشعب، رغم كل محاولات الاستقطاب.

 

قد يعجبك ايضا