المصدر الأول لاخبار اليمن

فيما تتهاوي سردية التطبيع.. الموقف اليمني يخلط أوراق الاحتلال؟

صنعاء | وكالة الصحافة اليمنية

 

في المشهد الإقليمي الراهن، تتجلى التناقضات الصارخة بين مسارين مختلفين تمامًا في التعامل مع ما يجري في غزة. فبينما تمثل بعض الأنظمة المطبعة مسارًا للتعاون الذي يخدم مصالح الاحتلال الإسرائيلي، يجسد الموقف اليمني مسارًا للمواجهة والتصعيد، وهو ما يكشف عن ديناميكيات درامية في المنطقة. تتحول الساحة العربية إلى مسرح درامي تتصاعد فيه خطوط الصراع بين إرادة المقاومة والتحرر من جهة، وواقع التبعية والارتهان من جهة أخرى، وهو ما يتكشف بوضوح في المشهد اليمني الذي يقف كشاهد حي على هذه المعادلة. الأمر لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل هو صراع حضاري يمس جوهر الهوية والسيادة، حيث تتجلى المقاومة كقوة دافعة لا تقبل الهزيمة، بل تجسدها الشعوب في حراكها المستمر نحو الحرية والاستقلال والسلام الحقيقي.

 

مواجهة شاملة ودعم لا محدود

يشكل الموقف اليمني، وتحديدًا سلطات صنعاء، تجاه العدوان على غزة نموذجًا مختلفًا تمامًا؛ فمنذ اللحظات الأولى للعدوان، اتخذت القيادة اليمنية قرارًا استراتيجيًا بدخول المواجهة بشكل عسكري مباشر، وذلك عبر استهداف السفن المرتبطة بالكيان في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وضرب العمق الإسرائيلي بالصواريخ والطائرات المسيرة. هذا الموقف كان رسالة واضحة بأن اليمن مستعد لدفع الثمن من أجل دعم المقاومة، رغم ظروفه الصعبة والحصار المفروض عليه.

على الصعيد السياسي والاقتصادي، كان الموقف اليمني متماسكًا ورافضًا لأي شكل من المهادنة أو المداهنة مع الكيان الصهيوني؛ حيث أعلنت صنعاء عن موقفها الداعم بالكامل للمقاومة، ووضعت كافة إمكانياتها في خدمة المعركة، كما شهدت المدن اليمنية مسيرات مليونية حاشدة، أكدت على الالتزام الشعبي الكامل بدعم غزة، وأرسلت رسالة قوية بأن الموقف الرسمي يمثل إرادة شعبية لا تقبل المساومة، فتحول الموقف اليمني إلى حالة من التعبئة الشاملة، عسكرية وشعبية، وهو ما يظهر التباين الهائل بين مسار يمني يرى في المواجهة واجبًا دينيًا ووطنيًا وإنسانيًا، ومسار آخر – تنتهجه بقية الدول – يرى في الخضوع والتبعية طريقًا لحماية مصالحه.

يُشكل النموذج اليمني مادة غنية تتحدى الرواية السائدة عن الاستسلام؛ فمن رحم الحصار والحرب المفروضة على صنعاء منذ تسع سنوات، نشأت تجربة فريدة لمواجهة ضارية مع العدو الصهيو-أميركي البريطاني، لم تقتصر على الصعيد العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل صمودًا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. فوانتي

كانت العقيدة الراسخة بأن الموقف اليمني، وهو الموقف النابع من كونه واجبًا دينيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا، لا يقبل الهزيمة فهو المحرك الأساسي الذي دفع هذا الشعب نحو الإبداع في التصدي، وتحويل التحديات إلى فرص.

تمثلت هذه الإبداعات في قدرة صنعاء على تطوير منظوماتها في مجال التسليح الهجومي والدفاعي، لتصبح عاملًا مؤثرًا في موازين القوى الإقليمية أجبر أعتى القوى الدولية – الولايات المتحدة – على طلب “السلام” والنجاة بمصالحها تاركة الحليفة المدللة “إسرائيل” تواجه مصيرها في تجرع الحظر اليمني البحري والجوي الذي اضطرت بسببه سلطات الكيان إلى إغلاق موانئهم البحرية والجوية.

كما نجحت سلطات صنعاء وقواتها المسلحة في إيصال رسالتها المدوية إلى أبعد نقطة في استهداف العمق الإسرائيلي بصواريخها الباليستية في “يافا” المحتلة وغيرها من المغتصبات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا النهج عكس إيمانها بأن الحق لا يمكن أن يُنتزع بالضعف، وتجسد هذا المبدأ في مواقف صنعاء التي أصرت على قرارها السيادي، ورفضت أي إملاءات خارجية.

تعكس هذه القراءة، حسب المحللين العسكريين والسياسيين في الداخل الإسرائيلي، حجم القلق الذي تسببه الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية، خصوصًا بعد فشل أنظمة الدفاع في اعتراض عشرات الصواريخ والمسيّرات التي سقطت في عمق الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وألحقت أضرارًا بالبنية التحتية وقطاع الطيران، مثلما حدث في مايو/أيار الماضي، عندما سقط صاروخ باليستي قرب مطار بن غوريون وتسبب في موجة إلغاء واسعة للرحلات الجوية.

أمام هذا التهديد المتنامي، يبحث صناع القرار في تل أبيب سيناريوهات عدة، من بينها استمرار سياسة الاستنزاف العسكري ضد قوات صنعاء عبر الغارات الجوية، أو محاولة التوصل إلى تفاهمات سياسية وخيارات تبدو معقدة وغير واضحة الآفاق.

لكن بحسب مصادر إسرائيلية، السيناريو الأكثر ترجيحًا هو التوصل إلى اتفاق مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشكل مباشر أو غير مباشر، يشمل صراحة أو ضمنًا وقف إطلاق النار من اليمن، وفق ما جاء في صحيفة “هآرتس”.

 

وجه آخر للصورة: أنظمة الخضوع والتبعية

على النقيض من ذلك، تبرز صورة أخرى قاتمة لأنظمة اختارت طريق الخضوع والتبعية. هذه الأنظمة، التي كان من المفترض أن تكون حارسة لسيادة شعوبها، تحولت إلى أدوات تنفيذ للمخططات الأميركية الصهيونية، وتنازلت عن قرارها السيادي بالتدريج، وصولًا إلى مرحلة أصبح فيها دورها يقتصر على خدمة مصالح الصهيو-أميركية على حساب مصالح شعوبها، فضلًا عن إمكانية الاضطلاع بواجب الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية.

ولعل من أبرز الشواهد على هذا التحول، استغلال الثروات والموارد الاقتصادية لهذه البلدان لصالح جهات خارجية، وتوجيه السياسات الداخلية بما يخدم أجندات لا تتوافق مع تطلعات الشعوب، وإنما تحقق الإرادة الأميركية والأوروبية والصهيونية. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى تحول الإعلام والنخب الثقافية في هذه البلدان إلى أبواق تروج لثقافة الهزيمة والاستسلام، وتبرر الخنوع تحت مسميات مختلفة، وتغيب الوعي عن المخاطر الحقيقية التي تتهدد الأمة. أصبح دور هذه الأنظمة أشبه بدور مراكز شرطة محلية تُعنى بتأمين مصالح المحتل، لا حماية مواطنيها.

ووفقًا للبيانات الإسرائيلية، بلغت حجم التبادل التجاري الإسرائيلي مع الدول العربية الخمس الرئيسية (مصر، الأردن، الإمارات، المغرب، البحرين) 4.524 مليار دولار في العام الماضي، مما يعني زيادة بنسبة 15% عن العام السابق. وشهدت هذه التجارة نموًا مستمرًا منذ عام 2020.

تصدرت الإمارات القائمة بتجارة بلغت 3.2 مليار دولار، تليها مصر (579 مليون دولار حسب البيانات الإسرائيلية، لكن البيانات المصرية تشير إلى 2.672 مليار دولار بسبب واردات الغاز الطبيعي). كما زادت تجارة البحرين بنسبة 843%، والمغرب بنسبة 39%. وتشير البيانات إلى وجود تجارة غير معلنة مع دول عربية وإسلامية أخرى، بقيمة 14.7 مليار دولار.

ومن أسباب هذا النمو اتفاقيات التطبيع (مثل اتفاقات إبراهيم 2020)، والمشاريع الاقتصادية المشتركة مثل خط أنابيب الغاز بين مصر وإسرائيل والممر الاقتصادي بين الهند وأوروبا عبر الإمارات والأردن وإسرائيل. كما لعبت اتفاقيات مثل “الكويز” (التي تربط التصدير المصري والأردني إلى الولايات المتحدة بالمكونات الإسرائيلية) دورًا في تعزيز التجارة.

على المستوى السياسي، كان التطبيع بمثابة غطاء لمناورات سياسية تهدف إلى تهميش القضية الفلسطينية. تحولت بعض الأنظمة إلى أداة لتبرير العدوان الإسرائيلي والدفاع عن مواقفه، في الوقت الذي تعمل فيه على خنق أي صوت معارض داخليًا، وتجريم أي محاولة لدعم المقاومة.

على الصعيد العسكري والأمني، شهدت العلاقات المطبعة تعاونًا غير مسبوق. تمثلت الشواهد في عقد اجتماعات ولقاءات أمنية سرية، وتنسيق مشترك في مناطق معينة. هذا التقارب يعكس تحولًا في الأولويات الإقليمية، حيث تحولت بعض الأنظمة من اعتبار الكيان الإسرائيلي عدوًا إلى شركاء في جرائم حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها آلة العدو الصهيوني في غزة.

 

تفكيك دوافع الكيان من التطبيع

إقامة علاقات طبيعية مع الاحتلال الإسرائيلي هو مطلب جوهري للكيان نفسه، الذي أُسس كقاعدة عسكرية غربية مصطنعة، وُضعت عمدًا بين وادي النيل وبلاد الشام والحجاز، والهدف الاستراتيجي من وجود هذا الكيان هو الفصل بين الشعوب العربية ومنع أي وحدة عربية. ولتحقيق الأمن والاستقرار، يرى الكيان أن الاعتراف العربي به هو بوابة البقاء.

تطمح هذه الأهداف إلى ما هو أبعد من مجرد الاعتراف السياسي. فبعد نجاح التطبيع، تبدأ مرحلة التطبيع الثقافي الخبيث، حيث يتم التغلغل في المجتمعات العربية عبر الدعم التقني والعلمي، ومنح فرص الدراسة في جامعات الكيان، بل وفتح فروع لها في الدول العربية. هذه الخطوات مصممة لنشر فكرة “القبول والتفاهم مع الصهيونية”، مما يؤدي إلى “صهينة العرب” أنفسهم، وتجريدهم من هويتهم وقضيتهم.

 

تصفية القضية الفلسطينية

يعتبر الكيان الإسرائيلي التطبيع بمثابة اتفاق لتصفية القضية الفلسطينية. يتضح هذا المخطط من خلال الخطاب الذي يُقدم للعرب: “من يطالب بحق العودة فلا يلومنّ إلا نفسه”، و”الفلسطينيون عندكم يُجنّسون، ومن بقوا عندنا يُوزعون بينكم”. وفي المقابل، تُقدم الوعود بمكافآت اقتصادية وتنموية وهمية، مثل تدفق الشركات الغربية، وزيادة خطوط النفط والغاز، وتضاعف المطارات، وفتح أبواب الهجرة إلى الغرب. هذا ليس سوى ثمن رخيص مقابل التخلي عن القضية.

على الجانب الموازي، تتباين المواقف العربية الرسمية ما بين مطبع بلا شروط وآخر، وإن اتفق على رؤية هشة مفادها “لا يمكن القبول بعلاقات طبيعية على حساب القضية الفلسطينية”، وهي الرؤية التي تشترط فيها بعض الأنظمة العربية لإتمام التطبيع، إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة وحق الفلسطينيين في التنقل والترشح، والتخلي عن فكرة “يهودية الدولة”. كما يطمحون إلى التوسع في ساحات المسجد الأقصى لاستيعاب الزوار، وفتح المجال لرجال الأعمال الفلسطينيين للاستثمار في القدس. إلا أن هذه الشروط لا تعكس سوى الحد الأدنى من المطالب العربية، ولكنها تصطدم مباشرة مع الرؤية الصهيونية التي تعتبر “القدس” عاصمة أبدية لها، وترى في أي تمكين للفلسطينيين خطرًا وجوديًا.

وبالتالي، فإن هذا التصادم الواضح جعل من التطبيع أكذوبة. المسار التاريخي للتطبيع، من اتفاقات كامب ديفيد إلى وادي عربة، وصولًا إلى “الاتفاقات الإبراهيمية”، لم يكن سوى مسار تنازلات عربية مقابل وعود لم تتحقق. كل خطوة نحو التطبيع كانت بمثابة إغلاق لباب الصراع التاريخي بحجة “السلام”، مع تجاهل كامل لحقيقة الصراع الاستراتيجي مع العدو الصهيوني.

تتسارع جهود الكيان الإسرائيلي وداعميه في فرض التطبيع، مستغلين الظروف الإقليمية لفرض هذا المخطط، كما هو الحال في لبنان وسوريا. يرى الكيان الإسرائيلي أن الوقت يضيق، خاصة مع تزايد التحول في الرأي العام الغربي، حيث بدأت المؤسسات الأهلية والمنظمات المدنية بالتحول من دعم الكيان إلى دعم القضية الفلسطينية. هذا التحول يمثل خطرًا حقيقيًا على الكيان، الذي قد يصبح “حالة مؤقتة وقابلة للزوال” إذا ما انتفضت الشعوب الغربية ضد حكوماتها.

جرافة التطبيع قد تتقدم، لكنّ فلسطين ليست للبيع، ودونها دماء وأرواح. لا يمكن أن يتحقق السلام إلا بعودة الشعب إلى أرضه وبيوته في كل فلسطين. إما أن تقوم دولة فلسطينية كاملة السيادة، وإلا فإن العرب لن يقبلوا إلا باستعادة أرضهم ودورهم.

 

قد يعجبك ايضا