يشكل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في اليمن حدثاً استثنائياً يتجاوز الطابع الديني والروحاني، ليغدو تعبيراً عن هوية راسخة وولاء متجذر للنبي محمد ولرسالته التي غيرت مسار التاريخ.
ارتبط اليمنيون بالنبي محمد منذ اللحظة الأولى لانتشار الإسلام، يكفي أن نذكر قصة إسلام الصحابي الجليل الطُّفيل بن عمرو الدوسي الذي عاد إلى قومه في اليمن يحمل نور الرسالة، كما أن وفود اليمن قدمت على النبي في المدينة، ونالوا شرف الدعاء منه والثناء على إيمانهم.
هذا الارتباط الوثيق لم ينشأ من فراغ، بل تم تجسيده منذ استقبال أهل المدينة المنورة من قبائل الأوس والخزرج اليمنية رسول الله بفرح عظيم، وخرجوا رجالاً ونساءً وأطفالاً يرددون عبارات الترحيب “طلع البدر علينا”، يعلنون ولاءهم له، ومبايعتهم على النصرة والطاعة، كان المشهد أقرب إلى عرس جماعي روحي، يُظهر التحول من زمن الصراع والانقسام إلى عهد جديد قوامه المحبة والعدل والرحمة.
اليمنيون الذين وصلهم نور الرسالة سريعاً كانوا من أوائل من ناصروا الإسلام برسالة، وشاركوا في نشره، في زمن الفتوحات، كان اليمنيون في مقدمة الصفوف، يقاتلون نصرة للإسلام لا طلباً للغنائم، وفي عصور لاحقة، ظلوا يحافظون على إرث الارتباط بالرسول، سواء عبر المدارس العلمية التي عنيت بالسيرة والحديث، أو عبر الطقوس الاجتماعية التي تبقي ذكره حياً في النفوس.
وقد خُصّوا من النبي بمديح خالد مبشراً بفضلهم حين قال: “أتاكم أهل اليمن، أرقُّ قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية”، ومنذ ذلك الحين، بات حب الرسول والارتباط به جزءاً من الهوية الثقافية والدينية للشعب اليمني، وهو ما يفسر احتفاءهم الاستثنائي بذكرى مولده، وحرصهم على تحويلها إلى مناسبة جامعة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية.
ذاكرة نصرة متجددة
الاحتفال بالمولد النبوي لدى اليمنيين ليس مجرد طقوس دينية متوارثة، بل فعل سياسي واجتماعي يستحضر الذاكرة الأولى للنصرة التي قدمها الأنصار للنبي كتجديد للولاء والعهد معه.
حين يحتفل اليمنيون بالمولد النبوي، فإنهم لا ينظرون إليه كذكرى تاريخية جامدة، بل كفعل ولاء وتجديد عهد، الاحتفال بالنسبة لهم يعني إعادة استحضار شخصية النبي في واقع يزداد فيه اغتراب القيم وضياع القدوة.
في كل عام، يجدد اليمنيون هذا العهد من خلال مظاهر شعبية واسعة تشمل المدن والقرى، حيث تتحول الشوارع والميادين في صنعاء وصعدة وذمار والحديدة وتعز وغيرها من المحافظات اليمنية إلى لوحات من النور والبهجة، الأعلام الخضراء ترفرف، والأناشيد تصدح، والمجالس تتزين بآيات القرآن وأحاديث المصطفى، ليس الهدف مجرد الفرح، بل استعادة صورة القائد والمعلم الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور.
هذه المظاهر لا تحمل معنى الفرح فحسب، بل تُعد بمثابة رسالة رمزية تؤكد تمسك اليمنيين بنهج النبي كقدوة عليا، وإصرارهم على جعل القيم النبوية مرجعية في مواجهة التحديات التي تفرضها التحولات الإقليمية والعالمية.
يقول أحد المشاركين في تنظيم الاحتفالات بميدان السبعين: أن “المولد النبوي في اليمن هو إعادة استحضار للذاكرة الأولى للنصرة، وتأكيد على أن ولاء اليمنيين لرسول الله ليس مجرد انفعال عاطفي، بل التزام تاريخي متجدد مع رسالته وقيمه.”
ويضيف “نحن نحتفل بالمولد لأننا نرى في رسول الله قدوتنا الأولى، هو الذي علمنا الكرامة والرحمة، وبه نستمد قوتنا في مواجهة تحديات اليوم”.
قدوة في زمن الاضطراب
في عالم تزداد فيه الحرب الناعمة عبر الضغوط الثقافية والإعلامية، وفي ظل ما يشهده العالم من تضخم دور القدوات الزائفة، يواجه الشباب سيلًا من النماذج والقدوات الزائفة التي تصنعها وسائل الإعلام الغربية ووسائط التواصل الاجتماعي، من نجوم الرياضة والفن إلى مشاهير المنصات الرقمية، يجد الناس أنفسهم أمام شخصيات مؤثرة في المظهر لكنها خالية من العمق القيمي.
إزاء هذا الواقع، يبدو الاحتفاء بالمولد النبوي بالنسبة لليمنيين فعلاً اجتماعياً لحماية الأجيال من الانجرار وراء أنماط حياة بعيدة عن قيم الإسلام.
فشخصية النبي تقدم النموذج الأمثل للقيادة الإنسانية: قائد عادل، أب رحيم، معلم حكيم، وصاحب مشروع حضاري جامع، وهذا ما يجعل الاقتداء برسول الله يعني السير على خطى إنسان جمع بين النبوة والقيادة الإنسانية، أما الاقتداء بغيره – من المشاهير أو السياسيين أو رجال المال – ففي الغالب لا يتجاوز حدود المظهر. هؤلاء قد يقدمون صورة براقة على الشاشات، لكنهم يفتقدون إلى الرسالة العميقة والقيم الأخلاقية الجامعة. الفارق الجوهري أن النبي قدّم نموذجاً للإنسان الكامل، بينما يقدم غيره نماذج ناقصة مرتبطة بالمصالح أو الشهرة أو المال.
في هذا السياق، يؤكد الشهيد الدكتور محمد علي المولد وزير الشباب والرياضة في حكومة البناء والتغيير بصنعاء أثناء عقد اللقاء التشاوري الرابع لمدراء المكاتب بالمحافظات: أن “الاحتفال بالمولد النبوي في اليمن ليس مجرد سلوك عاطفي ديني، بل هو فعل أخلاقي وواجب وطني لحماية النشء والشباب من الانجراف وراء أنماط حياة استهلاكية وغريبة عن القيم الإسلامية، مؤكداً أن النبي محمد يقدم النموذج الأكمل للإنسان الذي جمع بين القيادة الأخلاقية والحكمة السياسية، رجل عاش مع الناس، عانى ما يعانونه، وشاركهم أحلامهم وآلامهم، في سيرته يجد الفرد حلولاً لأزماته، ونموذجاً للتوازن بين الروح والمادة.”
البعد السياسي.. هوية ومقاومة
في نظر كثير من اليمنيين، فإن إحياء المولد النبوي لا يقتصر على البعد الروحي، بل يتعداه ليكون فعلاً مقاوماً لمحاولات سلخ الشعوب عن هويتها الإسلامية، في زمن العولمة والهيمنة الثقافية، يصبح التمسك بذكرى النبي إعلاناً عن الانتماء للأصالة، وتمسكاً بالهوية الدينية والقيمية في مواجهة الغزو الفكري والعسكري.
كما أن الاحتفال يتخذ بعداً سياسياً في بعض الأحيان، حيث يرى اليمنيون أن استحضار شخصية النبي هو استحضار لقيم العدل والحرية والكرامة في مواجهة قوى الاستبداد والعدوان.
ويأخذ الاحتفال في اليمن بالمولد النبوي خلال العشر السنوات الماضية بعداً سياسياً واضحاً، في ظل الحروب والتدخلات الخارجية، يحرص اليمنيون على إظهار تمسكهم برسول الله كرمز جامع لهويتهم الدينية والوطنية، فالمولد النبوي بالنسبة لهم ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو مناسبة للتأكيد على ثوابتهم في مواجهة مشاريع التفتيت والهيمنة.
ولذلك تتحول الفعاليات إلى استعراض جماهيري ضخم يحمل رسائل سياسية واضحة، سواء في مستوى الداخل عبر تعزيز وحدة الصف، أو في مستوى الخارج كرسالة رفض لمحاولات طمس الهوية الإسلامية.
وبذلك يصبح الاحتفال عملاً مقاوماً للاغتراب الثقافي والسياسي على السواء، ولذا يرى كثير من المراقبين والمفكرين وعلماء الدين، أن المولد النبوي تحول إلى منصة لإبراز التمسك بالهوية الإسلامية في مواجهة مشاريع التفتيت والهيمنة.
يقول الأستاذ بكلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء الدكتور إسماعيل إبراهيم الوزير نائب وزير العدل في حكومة بن حبتور في تصريح خاص لوكالة الصحافة اليمنية: إن “إحياء ذكرى النبي في اليمن رسالة دينية وسياسية بامتياز، إنها تعني أن الشعب يتمسك بهويته الأصيلة ويرفض محاولات التفتيت والهيمنة الثقافية والسياسية الغربية.”
ويضيف: “هذه المناسبة تجمع اليمنيين في مسيرات وحشود كبيرة لتأكيد محبتهم للنبي واستلهام سيرته، مما يعتبره البعض عملًا صالحًا يغيظ أعداء الإسلام الذين يسعون إلى طمس هذه السيرة العطرة”.
استمرارية النهج من الماضي إلى الحاضر
منذ استقبال الرسول في المدينة وحتى اللحظة الراهنة، ظل اليمنيون على نهج ثابت أوفياء لنهج النصرة والولاء للرسالة، قديماً تجسد ذلك في المشاركة الفاعلة في الفتوحات الإسلامية، وأسهموا في نشر الإسلام شرقاً وغرباً، وحاضراً يواصلون عبر المولد النبوي التأكيد على وفائهم لرسول الله واستمرارهم على نهجه.
لا يكاد بلد إسلامي يخلو من مظاهر الاحتفال بالمولد، لكن اليمنيين يضفون على المناسبة طابعاً خاصاً، فهم يحولونها إلى مهرجان شعبي شامل، يشارك فيه الصغير والكبير، الرجل والمرأة، في المدن والقرى على السواء.
فالمولد النبوي لم يعد مجرد يوم للفرح أو تجمع جماهيري، بل هو آلية سنوية من خلال القصائد والأناشيد التي تنشد في المجالس والتي تحمل عاطفة جياشة، تروي تفاصيل السيرة وتستحضر المعجزات وتعيد التذكير بالقيم التي جاء بها النبي: الرحمة، العدالة، المساواة، ومقاومة الظلم، وهو أيضاً مناسبة لتعزيز التكافل الاجتماعي.
تكافل اجتماعي ووحدة وطنية
جانب آخر يميز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في اليمن هو طابعه الاجتماعي، فالمناسبة تتحول إلى فرصة للتكافل، من خلال توزيع الصدقات وإقامة الولائم الشعبية، كما أن الأطعمة التقليدية توزع في الشوارع كرمز للبركة، وحتى الفقراء يجدون في المناسبة فرصة لتذوق الفرح والاحتفاء، حيث يتقاسم الناس الفرح رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اليمنيين جراء العدوان والحصار لأكثر من 10 سنوات، والتي تعكس وحدة المجتمع حول القيم النبوية في البر والإحسان والرحمة والتكافل.
ويشير الشيخ مفضل أحمد مفضل، رئيس هيئة علماء اليمن في أمانة العاصمة، إلى أن: “الرسول كان رحمة للعالمين، واليمنيون يترجمون هذا المعنى عملياً في المولد النبوي عبر أعمال التكافل والمساعدةـ إنها مناسبة تذكر المجتمع بأهمية الوحدة والتعاون، في وقت هم أحوج ما يكونون إليه.”
لماذا يحتفل اليمنيون بالمولد النبوي؟
السؤال الجوهري يجد إجابته في مزيج من الأبعاد والعوامل الدينية والاجتماعية والسياسية:
دينياً: لأن النبي محمد هو القدوة العليا التي تستحق الاقتداء.
اجتماعياً: لأن المناسبة توحد المجتمع وتحصّنه من قدوات زائفة.
سياسياً: لأنها فعل مقاومة وتمسك بالهوية الإسلامية في وجه الهيمنة.
إنه احتفال بالذاكرة والهوية معاً، احتفال بقدوة جامعة لا يقتصر أثرها على الجانب الديني، بل يمتد ليشمل مختلف مناحي الحياة: الأخلاق، السياسة، المجتمع، والثقافة، ولهذا يظل المولد النبوي في اليمن حدثاً جامعاً يُعيد التأكيد على أن الإيمان ما زال يمانياً، وأن الحكمة ما زالت يمانية، كما أراد رسول الله لهم منذ أربعة عشر قرناً.
إنه احتفال وبيان عملي أن اليمنيين ما زالوا على العهد، أوفياء لرسول الله وقيمه، مجددين ولاءهم له جيلاً بعد جيل، ليبقى الإيمان يمانياً والحكمة يمانية كما قال النبي الكريم.