تتغير موازين القوى في المنطقة، وتتضح حقيقة التجاذبات في مشهد لا يحتمل الكلمات المنمّقة، بل يستدعي المواجهة. في خضم التوتر الذي أعقب قمة الدوحة العربية الإسلامية، بدا أن الخطابات الرسمية لا تزال أسيرة نمط تقليدي، يكتفي بالإدانة دون تقديم حلول عملية، وهو ما يضع الأمة أمام منعطف حاسم. لم تكن القمة مجرد اجتماع، بل كانت مرآة عاكسة للواقع، كشفت هشاشة الموقف العربي والإسلامي إزاء العدوان الذي استهدف بشكل مباشر عاصمة عربية.
تضارب المواقف.. وتآكل السيادة
لم تخرج المطالب المطروحة في مسودة البيان الختامي للقمة عن إطارها المعتاد، حيث انحصرت في ثلاث نقاط رئيسية، كان أبرزها “التأكيد على رفض أي تبرير للعدوان الإسرائيلي على الدوحة” و”تذكير المجتمع الدولي بضرورة وقف اعتداءات سلطات الاحتلال”. هذه المطالب، التي اتسمت بضعف الصياغة وتكرارها في كل محفل، تعكس حالة من العجز عن تجاوز مرحلة إعلان المواقف إلى مرحلة الفعل.
من جهته، وصف أمير قطر، الاعتداء بأنه “انتهاك سافر وخطير وعمل إرهابي جبان”، وهو ما مثّل إدانة صريحة لا لبس فيها. وقد ذهب الأمير إلى أبعد من ذلك، عندما كشف عن وجود قيادة حركة حماس في الدوحة لدراسة اقتراح أمريكي بخصوص وقف إطلاق النار، وهو ما يجعل الاعتداء بمثابة استهداف متعمد لعملية الوساطة. هذه النقطة بالذات تحمل دلالات عميقة، حيث تظهر كيف أن الكيان الإسرائيلي لا يتردد في استهداف الجهود الدبلوماسية، معتبراً أن المفاوضات بالنسبة لسلطات الاحتلال ليست سوى “وسيلة لتعمية الرأي العام الإسرائيلي”، وأن من يقف وراء هذه العمليات يسعى لإفشال المفاوضات. وتابع أن رئيس الوزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتباهى بالسيطرة المطلقة ويريد أن تصبح المنطقة العربية “منطقة نفوذ إسرائيلية”، واصفًا هذا الطموح بأنه “وهم خطير”.
لم تختلف كلمات الأمينين العامين لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية عن السياق السائد، فقد دعا الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، حسين إبراهيم طه، مجلس الأمن لتحمل مسؤولياته إزاء استهداف قطر، ودعا إلى تمكين السلطة الفلسطينية في قطاع غزة المتعاونة والعميلة مع الاحتلال، وكأن الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية تنعم بالسيادة الكاملة وتسيطر على كل شيء، ما عدا غزة، متغاضيًا عن دورها السلبي كبقية الأنظمة العميلة تجاه جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة.
فيما تحدث الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، عن تجاوز الجريمة الإسرائيلية “كل الحدود”، وشدد على أن “الصمت على الإجرام جريمة”. ورغم حماسة الكلمات، إلا أنها لم تقدم رؤية واضحة لكيفية تجاوز مرحلة الصمت إلى الفعل، بل اكتفت بتحميل المجتمع الدولي مسؤولية ما يجري، في استنساخ للنهج الذي ظل متبعًا لعقود طويلة.
مواقف قادة عرب وإسلاميون
وفي السياق، شهدت القمة كلمات متفرقة لقادة عرب أكدوا على تضامنهم مع قطر، مثل العاهل الأردني الذي شدد على أن “أمن قطر هو أمننا ودعمنا مطلق”. في حين ذهبت كلمات أخرى إلى إرسال رسائل تحذيرية، مثل كلمة الرئيس المصري الذي حذر “شعب إسرائيل” أو الرئيس التركي الذي أشار إلى أن العدوان “بات يشكل تهديداً مباشراً لمنطقتنا”. هذه الكلمات، رغم أهميتها في التعبير عن التضامن، إلا أنها تفتقر إلى صياغة استراتيجية موحدة للرد على التهديدات المتزايدة. فكلمات مثل “السكوت على الإجرام جريمة”، أو “ما من دولة عربية بمنأى عن هجمات إسرائيل”، تبدو وكأنها أقوال تحذيرية أكثر منها إعلان عن نية اتخاذ إجراءات ملموسة.
وأعرب العديد من القادة والزعماء عن تضامنهم مع قطر ونددوا بالعدوان الإسرائيلي. فقد أكد نائب رئيس الوزراء العماني فهد بن محمود آل سعيد أن “أمن دولة قطر هو من أمن الخليج، بل والأمن العربي والإسلامي كله”. ودعا إلى أن يكون هذا المؤتمر “بداية لتحرك جاد لإنهاء الاحتلال ووقف الاعتداءات”. كما شدد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف على أن “الجزائر مستعدة لتقديم كل الدعم للشقيقة الغالية قطر لاتخاذ كل ما يلزم للحفاظ على أمنها”، معتبراً أن “العدوان الإسرائيلي السافر على قطر يمثل اعتداء على الأمة العربية والإسلامية كلها”.
من جانبه، أكد وزير الخارجية الإندونيسي سوغيونو أن “العدوان على الدوحة غير مقبول، ونقدر عاليا جهود الوساطة التي تقوم بها دولة قطر”. وأضاف أن “العدوان على دولة قطر باعتباره انتهاكا صارخا للقانون الدولي”، مؤكداً “إدانتنا التامة لما تقوم به إسرائيل من انتهاكات”.
تقييم الوضع الدفاعي
أصدر المجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي بياناً جاء فيه “ندين بأشد العبارات اعتداء “إسرائيل” والانتهاك الصارخ لسيادة دولة قطر”. واعتبر المجلس أن “عدوان إسرائيل تصعيد خطير ومرفوض ومخالفة جسيمة للقانون الدولي”. ووجه القادة “مجلس الدفاع بعقد اجتماع عاجل بالدوحة يسبقه اجتماع للجنة العسكرية العليا”، حيث سيقوم “مجلس الدفاع الخليجي بتقييم الوضع الدفاعي للمجلس ومصادر التهديد في ضوء العدوان على قطر”. وسيوجه الاجتماع “القيادة العسكرية لأخذ إجراءات لتفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع”.
ودعا رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم إلى “التحلي بالشجاعة اللازمة لاتخاذ موقف عملي إزاء الاعتداءات المتواصلة”. وأكد أن “الإدانة لن توقف إطلاق الصواريخ ولن تحرر فلسطين، بل لا بد من فرض عقوبات على إسرائيل”. ودعا إلى “قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع إسرائيل”.
من جهته، أعلن رئيس وزراء باكستان شهباز شريف “تضامننا الكامل مع دولة قطر”، معتبراً أن الهجوم عليها “يظهر طموحات الهيمنة الإسرائيلية”. ودعا إلى “وقف عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، ويجب العمل على تحقيق حل الدولتين”.
إجماع عربي لدعم قطر
جدد ولي العهد الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح التأكيد على “دعمنا التام لما تتخذه دولة قطر من إجراءات للحفاظ على أمنها واستقرارها”. وأكد رئيس مجلس القيادة الرئاسي باليمن رشاد العليمي أن “الاعتداء الإسرائيلي الغادر على قطر يؤكد أن الأمن العربي والإسلامي كلٌ لا يتجزأ”. كما شدد رئيس مجلس الرئاسة في ليبيا محمد المنفي على أنه “يجب اتخاذ موقف موحد في مجلس الأمن ضد العدوان على قطر ووقف الحرب على غزة”، والمطالبة “بمحاسبة المعتدين الإسرائيليين على جرائمهم”.
تحذيرات وتأكيد على وحدة الصف
أشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن “العدوان الإسرائيلي المتصاعد بات يشكل تهديدا مباشرا لمنطقتنا”. ودعا إلى “السعي إلى تقديم المسؤولين الإسرائيليين إلى العدالة وفقا لآليات القانون الدولي”، و”ممارسة ضغوط اقتصادية على إسرائيل”.
في السياق ذاته، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن “الاعتداء الآثم على الأراضي القطرية انتهاك جسيم للقانون الدولي وسابقة خطيرة”. وحذر من أن “سلوك إسرائيل المنفلت من شأنه تعزيز رقعة الصراع وزعزعة الاستقرار في المنطقة”.
دعا رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى “إصدار موقف عربي وإسلامي موحد يدين الاعتداء على دولة قطر الشقيقة”، واقترح “تشكيل لجنة عربية إسلامية مشتركة لنقل موقفنا إلى مجلس الأمن والجهات الدولية”.
بدوره، دعا رئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان إلى “تحرك عربي وإسلامي جاد يعيد الأمور لنصابها الصحيح”، مؤمناً بأن “وحدة صفنا وتماسك موقفنا هو السبيل الوحيد للحفاظ على أمننا وسيادتنا”.
شدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس على أن “مفتاح الأمن والاستقرار في المنطقة يكمن بوقف حرب الإبادة والتهجير وسرقة الأرض”. وأكد ملك الأردن عبد الله الثاني أن “العدوان على قطر يثبت أن التهديد الإسرائيلي ليس له حدود”، ودعا إلى “قرارات عملية لمواجهة هذا الخطر ووقف حرب غزة ومنع تهجير الشعب الفلسطيني”.
أكدت الكلمات المنقولة من القمة على أن المواقف الرسمية العربية والإسلامية، رغم تباينها في الدرجة، تتفق على إدانة العدوان الإسرائيلي على قطر، وتعتبره اعتداءً على سيادة الأمة بأسرها. ومع ذلك، يبرز التحدي الأكبر في تحويل هذه الإدانات إلى أفعال ملموسة. فالعبارات التي تتحدث عن “وهم خطير” لطموحات نتنياهو في الهيمنة، و”التهديد المباشر للمنطقة”، تستدعي استراتيجية موحدة وفاعلة، بدلاً من الاكتفاء بالخطابات التحذيرية. إن الحاجة إلى “تحرك جاد لإنهاء الاحتلال” و”فرض عقوبات على إسرائيل”، كما طالبت ماليزيا وباكستان، تعكس إدراكاً متزايداً بأن الصمت والإدانات وحدها لن توقف عربدة الكيان الإسرائيلي، وأن “وحدة الصف هي السبيل الوحيد للحفاظ على أمننا”.
خلاصة القول:
أكد وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو من القدس المحتلة أن حماس ازدادت “جرأة” بسبب تحركات الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطينية. وقال روبيو في تصريحات صحفية قبل وصوله، إن الرئيس دونالد ترمب كان “غير راضٍ” عن الأحداث التي جرت الأسبوع الماضي، في إشارة إلى الهجوم الإسرائيلي على قطر. وأضاف: “هناك قلق من أن ما جرى ربما يؤثر في الجهود الرامية لإعادة جميع الرهائن، والقضاء على (حماس)، وإنهاء هذه الحرب. هذه هي أولويات الرئيس”. لكنه أكد في الوقت ذاته، أن ذلك “لن يغيّر طبيعة العلاقة القوية والراسخة مع إسرائيل”. مما يعكس دعماً صريحاً لسلطات الاحتلال، وتجاهلاً للعدوان الذي قامت به على قطر.
وسبق ذلك أن أدان مجلس الأمن الدولي، الخميس، الهجوم الإسرائيلي على قطر، مشدداً على دعم سيادتها ووحدة أراضيها، بما يتماشى مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فيما تجنب البيان الإشارة إلى” إسرائيل” التي استهدفت قادة حركة “حماس” بغارات في العاصمة القطرية الدوحة، الثلاثاء.
تُظهر هذه المواقف المتضاربة حالة من الإرباك الدولي، حيث يواصل الاحتلال الإسرائيلي ممارسة سياساته العدوانية دون خوف من ردود فعل دولية حاسمة. ففي الوقت الذي تطالب فيه الفصائل الفلسطينية بـ”مواقف حاسمة” و”تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك”، يبدو أن الخيارات المطروحة على طاولة القمة لا تتجاوز حدود الإدانة الدبلوماسية.
قمة الدوحة تكشف هشاشة الموقف العربي لم تكن قمة الدوحة مجرد اجتماع روتيني آخر؛ بل كانت مسرحاً مكشوفاً لعرض العجز العربي والإسلامي، حيث تصاعدت وتيرة الأحداث الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق، إلا أن الرد الرسمي ظل محبوساً في سجن البيانات الضعيفة والكلمات المكررة. ففي الوقت الذي استهدف فيه الاحتلال الإسرائيلي عاصمة عربية مباشرة، لم يخرج القادة بأكثر من خطابات تستجدي الشفقة الدولية، وتخاطب المجتمع الدولي بأسلوب لا يليق بالسيادة.
عندما يصبح التاريخ عبئاً إن تحليل كلمات القادة في قمة الدوحة، من أمير قطر إلى أمين عام الجامعة العربية، يكشف عن حقيقة مرة: إنهم يكررون نفس الأخطاء التي ارتكبها أسلافهم على مدار قرن من الزمان. الكلمات الجوفاء عن “العدوان السافر” و”الممارسات الجبانة” لم تكن سوى جعجعة بلا طحين. ورغم أن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة كان بمثابة صفعة على وجه كل عاصمة عربية، إلا أن الرد لم يرتقِ إلى مستوى التهديد.
الخطابات العاجزة، بدلاً من اتخاذ قرارات حاسمة مثل قطع العلاقات أو فرض عقوبات اقتصادية، اكتفى القادة بـ “تذكير أنفسنا بضرورة الرد”. هذا التذكير ليس دليلاً على الوعي، بل هو إقرار صريح بالعجز، وكأنهم يعانون من فقدان للذاكرة الإرادية.
الاعتماد على الخارج، اتجهت الكلمات نحو تحميل المسؤولية للمجتمع الدولي، ومطالبة مجلس الأمن بـ”تحمل مسؤولياته”. هذا الموقف يظهر بوضوح أن القادة لا يرون في أنفسهم القدرة على مواجهة التحديات، بل يلقون بعبء أمنهم القومي على قوى خارجية.
صدمة الواقع، تباين المواقف وتآكل الكرامة في ظل هذا المشهد الهش، تبرز التناقضات الصارخة:
قوة القول وضعف الفعل، بينما دعا الرئيس الإيراني الدول الإسلامية إلى قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، لم يصدر من القادة العرب أي قرار مماثل. فالعلاقات الاقتصادية والسياسية مع هذا الكيان كانت أهم من كرامة الدول العربية وسيادتها.
عجز الكلمات أمام غطرسة الاحتلال، في الوقت الذي كان القادة يجتمعون لإصدار بيانات الإدانة، خرج رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليعلن بكل وقاحة أنه “لا يستبعد شن المزيد من الضربات على قادة حماس أينما كانوا”، في تحدٍ سافر لسيادة الدول.
هذا الضعف لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عقود من التردد والتنازل، مما جعل القادة العرب والمسلمين في نظر شعوبهم مجرد أبواق للشكوى، وليست قادة قادرين على صنع التغيير. ما كشفه العدوان على الدوحة لم يكن مجرد انتهاك لسيادة دولة عربية، بل كان دليلاً على أن آليات الدفاع والتحالفات الرسمية العربية قد أصبحت مجرد هياكل بلا روح. فبينما كانت دبابات “درع الجزيرة” ومقاتلاته توجه بنادقها نحو الشعوب، ترك الساحل مفتوحًا أمام الأعداء. هذا الواقع يرسخ قناعة مفادها أن الاستنكار اللفظي لن يوقف الصواريخ، وأن الاعتماد على وعود واشنطن لن يحقق الأمن. فكل قوة في هذا الخليج استُخدمت في غير محلها، لتتحول من أداة حماية إلى وسيلة قمع، ومن درع في وجه التهديدات الخارجية إلى خنجر مغروس في خاصرة الأمة. وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن الأنظمة العربية قد سلّمت رقبتها طوعًا، لتترك المنطقة عرضةً لأطماع سلطات الاحتلال، وتتيح لها فرصة غرس خناجرها في قلب الجزيرة، بينما يكتفي حلفاؤها بكلمات التبرؤ والتخلي.