في تصعيد خطير يذكر بأجواء الحرب الباردة، دخل التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية فنزويلا البوليفارية مرحلة جديدة أكثر اشتعالاً مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تنفيذ القوات الأمريكية ضربة عسكرية صباحية ثانية في المياه الدولية استهدفت ما وصفهم بـ “مهربي مخدرات إرهابيين فنزويليين”.
وفق تأكيداته بأن الضربة أدت إلى مقتل ثلاثة من هؤلاء الإرهابيين دون إلحاق أي أذى بالقوات الأمريكية، مبررًا العملية بأنها جاءت بناءً على أوامره المباشرة بعد التأكد من وجود المشتبه بهم في المياه الدولية ومزاعم تورطهم في تهريب المخدرات، وهو الإجراء الذي يمثل جزءًا من حملة أوسع تقودها واشنطن تحت مظلة مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات العابرة للحدود التي تهدد الأمن القومي الأمريكي حسب زعمها.
من جهته، رد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في مؤتمر صحافي عاجل بمجموعة من التصريحات الحادة، مؤكدًا أن بلاده عملت طوال الأسابيع الخمسة الماضية على الحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها الوطنية في مواجهة ما وصفه بـ “التهديدات النووية” والتجهيزات الأمريكية العلنية لغزو فنزويلا،
مشيرًا إلى وجود آلاف الجنود الأمريكيين المنتشرين حول فنزويلا ولا سيما في بورتوريكو، موضحا بأن بلاده تمارس حقها المشروع في الدفاع عن النفس وأن ما يجري ليس مجرد لفت للأنظار بل هو عدوان عسكري ودبلوماسي متكامل، وصولاً إلى التلميح بأن شعبه مستعد لحمل السلاح للدفاع عن الأرض إذا استوجبت الحياة ذلك.
كما شكك مادورو بشدة في الرواية الأمريكية واصفًا إياها بأنها ذرائع مفبركة بالأكاذيب، وطالب بشكل خاص بتحقيق دولي في صحة الفيديو الذي نشرته واشنطن والزعم بأنه يهاجم سفينة تهرب المخدرات وتنتمي لفنزويلا، معتبرًا أنه يشبه مقاطع تم تزييفها سابقًا في المنطقة العربية مما يثير شكوكًا كبيرة حول مصداقيته.
وفي الوقت نفسه قدم مادورو رواية مضادة تؤكد على التزام بلاده بمكافحة المخدرات بشكل قانوني حيث أعلن عن اعتراض قواته لقارب كان يهرب الكوكايين واعتقال المهربين بشكل قانوني، منوهًا بأن الدولة الوحيدة التي تنتهك القانون الدولي بشكل منهجي هي الولايات المتحدة ليس في فنزويلا فحسب بل في العديد من الدول الأخرى.
كما كشف عن اعتقال جنود أمريكيين كانوا على متن قارب في المياه الاقتصادية الخالصة لفنزويلا لمدة ثماني ساعات قبل إطلاق سراحهم، مؤكدًا أن لديه خططًا تصاعدية للدفاع وأن القوات المسلحة الفنزويلية أعلنت عن جزء منها فقط وأن فنزويلا قادرة على تأمين نفسها.
هذا التصعيد العسكري المباشر لم يأت من فراغ، بل هو تتويج لتوتر تاريخي عميق الجذور بين كاراكاس وواشنطن يعود إلى أوائل القرن العشرين عندما أصبحت فنزويلا محط اهتمام شركات الطاقة الأمريكية العملاقة بعد اكتشاف احتياطيات النفط الهائلة فيها، حيث سيطرت هذه الشركات على ثروة البلاد النفطية لعقود طويلة حتى قامت الحكومة الفنزويلية بتأميم النفط في عام 1976، وهو القرار الذي مثل نقطة تحول كبرى وأدى إلى تدهور اقتصادي كبير وعدم استقرار سياسي مستمر، ليتصاعد الأمر بشكل أكبر مع وصول هوغو شافيز إلى سدة الرئاسة في عام 1998 واتباعه سياسات اشتراكية يسارية واقتراب بلاده من خصوم Washington التقليديين مثل روسيا والصين وإيران وكوبا،
وهو النهج الذي استمر عليه خليفته نيكولاس مادورو مما زاد من تدهور الاقتصاد وعزلة فنزويلا الدولية وهجرة أكثر من سبعة ملايين مواطن من أصل 30 مليون، ودفع واشنطن إلى فرض سلسلة عقوبات اقتصادية وسياسية طائلة على Caracas والنخبة الحاكمة فيها ورفض الاعتراف بشرعية الانتخابات الرئاسية، لتتوج هذه المواجهة في عام 2020 عندما اتهمت وزارة العدل الأمريكية الرئيس مادورو شخصيًا بتجارة المخدرات وتهريبها إلى الولايات المتحدة وبغسل الأموال، بل ووضعت إدارة الرئيس جو بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض مكافأة مالية قدرها 15 مليون دولار مقابل الاعتقال.
أما في عهد الرئيس ترامب، فقد اتخذت هذه المواجهة منحى أكثر تشددًا حيث اتهمت إدارته فنزويلا ليس فقط برعاية تجارة المخدرات المميتة التي تحصد أرواح نحو 70 ألف أمريكي سنويًا عبر طرق بحرية في الكاريبي أو برية عبر المكسيك، بل أيضًا بتسهيل دخول ملايين المهاجرين غير النظاميين وإرسال مجرمين ومختلين عقليًا إلى الأراضي الأمريكية بهدف الإضرار بها،
وفي إطار سياسة المواجهة الشاملة مع الهجرة غير الشرعية والمخدرات، صنف ترامب في اليوم الأول لفترته الرئاسية الثانية عصابة “ترين دي أراغوا” الفنزويلية القوية كمنظمة إرهابية تمارس ما أسماه “إرهاب المخدرات”، وهي العصابة التي كانت إدارة بايدن قد فرضت عقوبات على أعضائها وعرضت مكافآت بقيمة 12 مليون دولار لاعتقال ثلاثة من قادتها، بينما أذن ترامب -الذي سعى طويلاً للإطاحة بمادورو- بمكافأة خيالية قدرها 50 مليون دولار مقابل أي معلومات تؤدي إلى اعتقال الرئيس الفنزويلي.
هذا التصعيد يحدث على خلفية نشر عسكري أمريكي ضخم في منطقة البحر الكاريبي بالقرب من السواحل الفنزويلية يشمل مدمرات صواريخ موجهة ومجموعة “إيوجيما” البرمائية وغواصة تعمل بالطاقة النووية وطائرات استخبارات من طراز “بي-8” وحوالي 4500 جندي، وهو ما رد عليه مادورو بتعبئة كاملة للجيش الفنزويلي، مما يفتح الباب أمام سيناريوهات متوقعة تتراوح بين استمرار حرب الاستنزاف عبر الضربات المحدودة والعقوبات، أو تصعيد عسكري مباشر قد يؤدي إلى مواجهة مفتوحة، أو حتى تدخل دولي أو منظمات إقليمية للوساطة، خاصة في ظل اتهامات باختراق السيادة وانتهاك القانون الدولي واستخدام ذرائع مكافحة المخدرات والإرهاب لتحقيق أهداف جيوسياسية أوسع في إطار الصراع الإقليمي والدولي على النفوذ في فنزويلا الغنية بالنفط.