المصدر الأول لاخبار اليمن

أزمة الانتحار والأمراض النفسية بين الجنود والمجتمع الصهيوني بعد 7 أكتوبر : انفجار صامت في الكيان الإسرائيلي

تحليل | وكالة الصحافة اليمنية |

منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب إسرائيلية مفتوحة ضد قطاع غزة، يواجه الكيان الإسرائيلي أزمة نفسية غير مسبوقة تحولت من مشكلة فردية إلى ما يشبه “الوباء المجتمعي”، فما يجري داخل المجتمع الصهيوني، وخصوصاً بين الجنود وأسرهم، بات يوصف في الإعلام العبري والأوساط الطبية بكونه “أكبر أزمة اضطراب نفسي في تاريخ الدولة العبرية”، هذه الأزمة لا تهدد فقط تماسك الجيش، بل تضرب العمق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لكيان الاحتلال.

تصاعد غير مسبوق في حالات الانتحار

وفق بيانات رسمية للجيش الإسرائيلي، منذ أكتوبر 2023 وحتى منتصف 2025، أقدم 54 جندياً إسرائيلياً على الانتحار 17 في عام 2023، 21 في 2024، و16 في النصف الأول من 2025، هذه الأرقام تعني أن “إسرائيل” تسجل كل شهرين تقريباً انتحار ثلاثة جنود، وهو معدل غير مسبوق خلال السنوات الـ 13 الماضية.

إلا أن المختصين يرون أن الأرقام الحقيقية أكبر بكثير مما يُعلن، البروفيسور “هاجاي هرمس”، وهو طبيب نفسي إسرائيلي أسس جمعية “من أجل الحياة”، أكد أن ما يعلن عنه الجيش هو فقط “رأس جبل الجليد”، مشيراً إلى أن المجتمع الإسرائيلي يشهد بين 500 إلى 700 حالة انتحار سنوياً، لا يتم التطرق إلى معظمها في الإعلام، ويضيف: “ما يوجعني هو أن ابني نفسه أقدم على الانتحار خلال خدمته العسكرية، لذلك أؤكد أن غياب الشفافية وحجب البيانات يفاقم المشكلة بدلاً من معالجتها”.

حرب غزّة وصدمة الجنود

الحرب على غزة لم تكن مواجهة عسكرية تقليدية، بل تحولت إلى حرب استنزاف طويلة المدى. آلاف الجنود، بينهم قوات احتياط تم استدعاؤها بشكل متكرر، خدموا في مناطق قتال لمدة تتجاوز 700 يوم منذ أكتوبر 2023، هؤلاء الجنود عاشوا تجارب قاسية من القتل، مشاهد الدمار، فقدان رفاق السلاح، والعيش تحت ضغط دائم.

تؤكد تقارير الجيش أن الغالبية العظمى من المنتحرين كانوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إلى جانب الاكتئاب وفقدان المعنى بعد العودة إلى الحياة المدنية، كثير من الجنود، بعد أن اعتادوا على العنف المفرط في غزة، يجدون أنفسهم غير قادرين على الاندماج مجدداً في المجتمع أو العودة إلى حياتهم الطبيعية.

صحيفة هآرتس العبرية كشفت أن آلاف الجنود تركوا الخدمة القتالية بالفعل، بعضهم فرّ من وحداته، والبعض الآخر ادعى مشكلات صحية أو قدّم تقارير طبية مزيفة ليتجنب العودة إلى جبهة غزة، لكن الأكثر مأساوية هو أن عدداً كبيراً ممن يعانون من أزمات نفسية حادة أجبروا على العودة إلى القتال، الأمر الذي فاقم موجة الانتحار.

أرقام صادمة عن الصحة النفسية في الكيان الإسرائيلي

حسب وزارة الصحة الإسرائيلية ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، هناك حوالي 3 ملايين إسرائيلي بالغ يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، هذه النسبة ارتفعت بنسبة 900% منذ 7 أكتوبر 2023، وهي قفزة تاريخية لم تشهدها “إسرائيل” منذ تأسيسها عام 1948.

صحيفة جيروزالم بوست لفتت في تقرير لها بعنوان “النظام الصحي في الكيان الإسرائيلي يستعد لأكبر أزمة نفسية في تاريخه”، إلى أن نحو 30% من سكان “إسرائيل” قد يعانون في الأشهر المقبلة من اضطرابات نفسية بدرجات مختلفة، وهو ما يضع عبئاً هائلاً على نظام صحي يعاني أصلاً من نقص التمويل وضعف البنية التحتية.

نقص فادح في الأطباء النفسيين

أحد العوامل التي تفاقم الأزمة هو النقص الشديد في عدد الأطباء النفسيين داخل الكيان الإسرائيلي، حيث لا يتجاوز العدد الإجمالي 1000 طبيب نفسي، وهو رقم ضئيل جداً بالنسبة لمجتمع يضم أكثر من 9 ملايين نسمة يعيش ثلثهم تقريباً في حالة اضطراب نفسي.

المراجع الطبية تشير إلى أن فترة الانتظار للحصول على موعد مع طبيب نفسي قد تمتد لعدة أشهر، ما يعني أن كثيرين يتخلون عن فكرة العلاج أو ينهارون قبل تلقي المساعدة، إضافة إلى ذلك، فإن وصمة العار الاجتماعية تجاه المرض النفسي تجعل كثيرين يخشون طلب المساعدة خوفاً من اتهامهم بالضعف أو “الجنون”.

الجيش الإسرائيلي في مأزق

تقرير لموقع واللا نيوز العبري كشف أن قسم إعادة التأهيل في الجيش يتابع حالياً أكثر من 81 ألف ملف إصابة من الحروب السابقة، من بينها 31 ألف حالة نفسية، وفي الحرب الجارية على غزة وحدها، تم تسجيل أكثر من 20 ألف إصابة جديدة، نصفها تقريباً مرتبطة بمشكلات نفسية.

تقديرات الجيش تشير إلى أن عدد المصابين جسدياً ونفسياً الذين يحتاجون إلى رعاية قد يتجاوز 100 ألف بحلول عام 2028، وهو ما يمثل عبئاً مالياً وبشرياً ضخماً على المؤسسة العسكرية.

الأخطر من ذلك أن موجة الانتحار المتواصلة تكشف عن فشل عميق في منظومة الدعم النفسي التي يوفرها الجيش لجنوده، إذ إن البرامج الحالية مثل “ورشات الصمود النفسي” لم تعد كافية لمعالجة الكم الهائل من الحالات.

الانعكاسات الاجتماعية والسياسية

لا تقف الأزمة عند حدود الجيش، المجتمع الإسرائيلي بأكمله يعيش حالة اضطراب جماعي، آلاف العائلات فقدت أبناءها إما في المعارك أو بسبب الانتحار، عشرات آلاف آخرين يعيشون مع أقارب مصابين بأزمات نفسية مزمنة.

هذا الوضع يخلق أجواء من القلق العام، حيث تشير استطلاعات الرأي الإسرائيلية إلى تراجع ثقة الجمهور في قدرة الدولة على حمايتهم، ليس فقط من “الأعداء الخارجيين” بل من الانهيار الداخلي، حتى بعض السياسيين في الكنيست، مثل غيلعاد كريو، حذّروا علناً من أن “الكيان الإسرائيلي يواجه ظاهرة مقلقة ومتنامية من الانتحار مرتبطة مباشرة بأحداث الـ 7 من أكتوبر”.

أزمة وجودية تتجاوز الصحة النفسية

لا يمكن فصل هذه الأزمة النفسية عن السياق السياسي والعسكري الأوسع، فمنذ الـ 7 من أكتوبر، لم يتمكن الكيان الإسرائيلي من حسم المعركة عسكرياً رغم الدمار الهائل الذي ألحقته بغزة، ومع استمرار سقوط الجنود وخسائر الجيش، يتعمّق الشعور العام بالفشل واللاجدوى.

العديد من المراقبين يرون أن “الانتحار الجماعي البطيء” داخل المجتمع الإسرائيلي يعكس أزمة وجودية، مجتمع اعتاد أن يرى نفسه “جيشاً محاطاً بأعداء” يعيش اليوم تحت وطأة الخوف، الصدمة، وانعدام الأفق.

الإعلام العبري يعترف

رغم محاولات الرقابة العسكرية للتقليل من حجم الكارثة، لم يعد ممكناً إخفاء الحقائق، صحيفة هآرتس كتبت بوضوح أن “الضغط النفسي يسقط الجنود الواحد تلو الآخر”، بينما نقلت تقارير أخرى عن جنود قولهم إنهم لم يعودوا قادرين على “تحمل مشاهد القتل العشوائي”، في إشارة واضحة إلى الأثر النفسي العميق للعمليات العسكرية ضد المدنيين في غزة.

كما أن التحقيقات البرلمانية الجارية داخل الكنيست بشأن الانتحار والاضطرابات النفسية تعكس إدراكاً متزايداً بأن الأمر ليس حادثاً عابراً، بل تهديداً وجودياً للأمن القومي الإسرائيلي.

الأزمة النفسية التي تعصف بالكيان الإسرائيلي اليوم ليست مجرد مسألة صحية، بل هي انعكاس مباشر لأزمة أعمق في بنية المشروع الصهيوني نفسه، الاحتلال المستمر والحروب الدائمة حولت المجتمع إلى ساحة مغلقة من الخوف والقلق، ومع ارتفاع أعداد الجنود المنتحرين، وعجز النظام الصحي عن الاستجابة، وتزايد الاعتراف الإعلامي والبرلماني بحجم المشكلة، يمكن القول إن الكيان الإسرائيلي يدخل مرحلة جديدة من التآكل الداخلي، حيث تتحول الانتصارات العسكرية المزعومة إلى هزائم صامتة في نفوس جنودها ومواطنيها.

وبينما تتجاهل القيادة الإسرائيلية الأسباب الحقيقية لهذه الكارثة، وتواصل سياسة الحرب والاحتلال، فإن مسلسل الانتحار والاضطراب النفسي يبدو مرشحاً للاستمرار بلا نهاية قريبة.

المصدر : موقع الوقت التحليلي

قد يعجبك ايضا