غريتا تونبرغ.. الطفلة التي حاولت آلة الاحتلال سحقها لأنها قالت “غزة تُباد أمام أعيننا”
يافا | وكالة الصحافة اليمنية
كانت الفتاة السويدية الصغيرة غريتا تونبرغ، الناشطة التي لطالما واجهت زعماء العالم بوجهها الغاضب دفاعًا عن المناخ، تجلس هذه المرة في زاوية معتمة داخل زنزانة “إسرائيلية” باردة على أرضية إسمنتية خشنة، وملابسها شبه ممزقة تحاول أن تستجمع أنفاسها وسط جدرانٍ متآكلةٍ وحشراتٍ تزحف على جسدها المنهك لسبب آخر.. مأساة غزة الكارثية.
لم تكن الناشطة السويدية تتخيل يومًا أن نضالها من أجل البيئة دفاعاً عن الحياة سيقودها إلى مكانٍ تغيب فيه الشمس وتُهان فيه الإنسانية، فقط لأنها حملت في قلبها خبز غزة بدل الرفاه الغربي.
صوتها المرهق، وملامحها الشاحبة بعد أيام من الاعتقال والترحيل من كيان الاحتلال الإسرائيلي، كانا كافيين ليُدرك الجميع أن التجربة هذه المرة لم تكن ندوة بيئية ولا مظاهرة خضراء، بل رحلة ألم في قلب الظلم الإنساني.
غريتا، التي ألهمت ملايين الأطفال حول العالم بشجاعتها البيئية واحتجاجاتها ضد الشركات الملوِّثة، وجدت نفسها هذه المرة في مواجهة أبشع أنواع القمع البشري.
كانت غريتا، المرشحة الأبرز لجائزة نوبل للسلام، قد أبحرت ضمن أسطول الصمود العالمي الذي انطلق من الموانئ الأوروبية محمّلًا بالمتطوعين والمواد الإغاثية، في محاولة سلمية لكسر الحصار المفروض على غزة منذ ثمانية عشر عامًا.
لكن الأسطول لم يصل وجهته، إذ اعترضته زوارق الاحتلال الإسرائيلي في المياه الدولية، واقتيد جميع المشاركين إلى السجون.
ومن هناك بدأت رحلة التعذيب التي حولت أيقونة البيئة إلى شاهدٍ جديدٍ على وحشية الاحتلال.
رحلة الألم في سجون الاحتلال
يروي الصحفي التركي إرسين جيليك، أحد المشاركين في الأسطول بعد عودته إلى تركيا: “قام الإسرائيليون بتعذيب الطفلة السويدية غريتا تونبرغ، وسحلوها من شعرها، وأجبروها على الزحف وتقبيل العلم الإسرائيلي. غريتا مجرد طفلة صغيرة.. لقد جعلوها تبكي، لكنها لم تنكسر”.
وقال ناشط آخر من الأسطول: “ما فعلوه بها يذكّر بممارسات النازيين.. أرادوا إذلالها لأنها حملت اسم غزة على لسانها”.
أما غريتا نفسها فوصفت ما جرى قائلةً: “وضعوني في غرفة مليئة بالحشرات والبق، مما تسبب لي بطفح جلدي مؤلم. منعت من الطعام والماء لأيام، حتى أصيبت بالجفاف والإرهاق الشديد. وأُجبرت على الجلوس على أسطح صلبة ساعات طويلة كنوع من التعذيب النفسي والجسدي، كنت أرتجف من البرد والجوع، لكني كنت أفكر فقط بأطفال غزة الذين يعيشون ذلك كل يوم”.
هذه الحادثة ليست الأولى، فغريتا كانت قد اعتُقلت قبل أشهر أثناء مشاركتها في سفينة “مادلين”، لكنها أصرّت على العودة إلى البحر مجددًا. قالت حينها: أنا مستعدة لأن أقدّم حياتي مقابل 100 كيلوغرام من الدقيق لأهالي غزة.
أما العرب والمسلمون، فخيانتهم أكبر من صمتهم. معابر أُغلقت بوجه الغذاء والدواء، وجسور النفط والسلاح مفتوحة للعدو، بينما تُركت غزة تموت جوعًا”.
أرقام كارثية وصوت الضمير العالمي الغائب
ورغم الإذلال، خرجت من الزنزانة أكثر صلابة، لتواجه الصحفيين بوجهٍ شاحبٍ لكنه مملوء بالإصرار، قائلة: “هناك إبادة جماعية تحصل في غزة أمام أعيننا، والمنظومة الدولية تخون الفلسطينيين.”
لم تكن كلماتها تلك مجرد تصريح سياسي، بل صرخة ضميرٍ عالميٍّ من فتاة اعتادت مواجهة قادة العالم بلا خوف، لكنها هذه المرة تتحدث عن شيءٍ أعمق من التغير المناخي.. عن خرابٍ يلتهم البشر قبل الكوكب.
الأرقام القادمة من غزة تكشف عن حجم الخراب المكتمل الأركان الذي يهدد البشر:
(2.4) مليون نسمة في قطاع غزة يتعرضون للإبادة والتجويع والتطهير العرقي
(200) ألف طن من المتفجرات ألقاها الاحتلال على قطاع غزة مما تسبب في تدمير ( %90) من القطاع بشكل شامل.
(67,139) شهيد بينهم (19,450) طفل وأكثر من 12400 امرأة و 4412 مسن.
(11.200) عدد المفقودين تحت الأنقاض بينهم 4700 من الأطفال والنساء.
(460) شهيداً بسبب الجوع وسوء التغذية، بينهم (154) طفلاً.
(17) شهيداً بسبب البرد في مخيمات النزوح القسري، (منهم 14 طفلاً).
(2,605) شهيداً، و(19,124) إصابة، و(200) مفقودٍ في “مصائد الموت”، ما يسمى مراكز “المساعدات الأمريكية/الإسرائيلية”.
(23) شهيداً بسبب عمليات الإنزال الجوي الخاطئ للمساعدات.
(169,583) مجموع الجرحى والمصابين الذين وصلوا للمستشفيات (70 %) من الأطفال والنساء.
(222) يوماً على إغلاق الاحتلال التام لجميع معابر قطاع غزة.
(+120,000) شاحنة مساعدات إنسانية ووقود منع الاحتلال دخولها لقطاع غزة.
(47) تكية طعام استهدفها الاحتلال في إطار فرض سياسة التجويع.
(61) مركزاً لتوزيع المساعدات والغذاء استهدفها الاحتلال في إطار فرض التجويع.
تقول غريتا: “أسطول الصمود كان محاولةً للقيام بالدور الذي عجزت عنه الحكومات، لكسر حصار غزة وإيصال المساعدات، وأضافت: “لم نذهب لنُقاتل أحداً، بل لنقول إن للإنسانية وجهاً آخر”.
لكن الاحتلال لم يرَ في هذه الرحلة سوى “تهديدٍ رمزيّ”، فاعترضها بعنفٍ مفرطٍ، واعتقل المشاركين.
حتى وزير الأمن القومي “الإسرائيلي” المتطرف “إيتمار بن غفير” تباهى علنًا بما جرى، قائلاً بوقاحة: “كان يجب أن يشعروا بظروف السجن”.
تصريحٌ فُهم بوصفه اعترافًا رسميًا بانهيار القيم الإنسانية في كيانٍ بات يتلذذ بإهانة مناصري السلام.
تجربة تكشف العار
حين أُفرج عنها بعد أيام من الاعتقال والترحيل، ظهرت غريتا بملامحٍ متعبةٍ وابتسامةٍ باهتةٍ أمام عدسات الصحافة، لتقول: “لسنا أبطالًا، ما قمنا به هو الحد الأدنى من أجل غزة. قادتنا لا يمثلوننا طالما لم يوقفوا الحرب. ما زالوا يدعمون الإبادة والموت والتدمير”.
ثم توقفت لحظة، وكأنها تخاطب الضمير الإنساني بأكمله: “بإمكاني الحديث طويلًا عن سوء المعاملة التي تعرضنا لها، لكن الأهم أن العالم رأى الحقيقة”.
حين غادرت منصة المؤتمر في أثينا، بدت كمن خرجت من حربٍ لا من مؤتمرٍ صحفي.
لم تعد تلك الطفلة التي وبّخت زعماء العالم في قمة المناخ، بل صورة إنسانة تحمل وجع غزة في ملامحها، وصوت الإنسانية الجريح الذي يذكّرنا بأن غزة ليست بعيدة.. وأن الضمير حين يصحو، لا يعرف حدوداً ولا جنسية.
فتاة تواجه دول الاستكبار وحدها
منذ أن كانت في الخامسة عشرة، عُرفت غريتا بشجاعتها أمام ساسة العالم الكبار، وبكلماتها التي هزّت قاعات الأمم المتحدة.. تحدّت الرأسمالية، وواجهت الشركات الكبرى التي تلوّث الكوكب وتقتل الإنسان، وسارت وحيدة في شوارع أوروبا من أجل الكوكب.
لكنها اليوم تواجه شيئًا أكبر من التلوث.. تواجه الوحش الذي يقتل الإنسان باسم الأمن، ومع ذلك لم تستطع الصهيونية ولا المال إسكاتها، لا بالترغيب ولا بالترهيب.
تحولت من ناشطة مناخية إلى رمزٍ عالميٍ للضمير المقهور، فتاة من الشمال البارد وجدت نفسها في قلب جحيمٍ أحرق الأطفال في غزة، فقط لأنها رفضت أن تصمت.
غزة في دموعها
في كل دمعةٍ سالت من عينيها داخل الزنزانة، كانت غزة تبكي معها. وفي كل صرخة ألمٍ خرجت من فمها الصغير، كانت تصرخ باسم الإنسانية كلها.
ربما لا يوجد اليوم من يستحق جائزة نوبل للسلام أكثر من هذه الطفلة التي واجهت آلة القتل “الإسرائيلية” بضميرها الأعزل، وجعلت العالم يرى مأساة غزة في مرآة وجهها المتعب، وكشفت للمجتمع الدولي أن العدالة لا تُقاس بالمؤتمرات ولا بالبيانات، بل بمن يجرؤ على قول الحقيقة مهما كان الثمن.
بالنسبة لغريتا، لم يعد الصراع مجرد قضية سياسية بين حكومات، بل معركة أخلاقية بين الصمت والضمير.
وهي تؤمن اليوم أن الشعوب – وليس الحكومات – هي التي ستكسر هذا الصمت يوماً ما.