الانتحار الجماعي في “إسرائيل”.. جيش مهزوز ومجتمع على حافة الانفجار
القدس المحتلة/وكالة الصحافة اليمنية
منذ السابع من أكتوبر 2023، يعيش الكيان الإسرائيلي واحدة من أكثر مراحله ظلامًا واضطرابًا منذ تأسيسه. فالعدوان المفتوح ضد غزة لم يترك ندوبًا على الجسد فقط، بل خلّفت جروحًا عميقة في نفس المحتل الإسرائيلي.
تجاوزت الأزمة حدود ما يُعرف بـ”الإجهاد القتالي”، وتحولت إلى ما تصفه الصحف العبرية بـ”الوباء النفسي” الذي يهدد بنية المستوطنين وجيش الاحتلال معًا، في أكثر مشهد انحدار نفسي يشهده الكيان الإسرائيلي منذ قيامه عام 1948.
وباء ينتشر داخل الثكنات
بحسب تقرير قناة “كان” العبرية، مقابل كل جندي ينجح في الانتحار، هناك سبعة جنود حاولوا الانتحار وفشلوا.
تقرير مركز معلومات “الكنيست”، الذي أُنجز بطلب من النائب اليساري “عوفير كسيف”، كشف أن 297 جنديًا “إسرائيليًا” حاولوا الانتحار بين يناير 2024 ويونيو 2025، وهو رقم اعتبرته القناة “مؤشرًا مقلقًا” يعكس تفشي الظاهرة في صفوف المقاتلين وقوات الاحتياط على وجه الخصوص.
رئيس أركان جيش الاحتلال “إيال زامير” وجّه تحذيرًا داخليًا للضباط قائلاً: “اليقظة النفسية لا تقل أهمية عن الجاهزية القتالية”.
لكن الواقع، كما تعترف به المؤسسات العسكرية نفسها، أن الظاهرة خرجت عن السيطرة، فالمشكلات النفسية لم تعد استثناءً، بل قاعدة يومية في جيشٍ يعاني من الإنهاك والارتباك.
الانتحار في أرقام
منذ اندلاع العدوان وحتى منتصف عام 2025، تشير بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى أن 54 جنديًا أقدموا على الانتحار:
17 في عام 2023
21 في عام 2024
16 في النصف الأول من 2025
أي بمعدل ثلاث حالات انتحار كل شهرين وهو أعلى معدل خلال السنوات الـ13 الأخيرة.
إلا أن الأرقام الرسمية لا تعكس سوى “رأس جبل الجليد”.
يقول “هاجاي هِرمِس”، مؤسس جمعية “من أجل الحياة” العبرية: “ما يُعلن عنه الجيش هو الجزء المرئي فقط. هناك مئات الحالات لا تظهر في الإعلام، والمجتمع الإسرائيلي يسجل ما بين 500 و700 حالة انتحار سنويًا. غياب الشفافية هو ما يقتلنا أكثر من الرصاص”.
“هرمس”، الذي فقد ابنه منتحرًا أثناء خدمته العسكرية، صار أحد أبرز الأصوات المطالبة في الكيان الإسرائيلي بإنهاء التعتيم الإعلامي على هذه الظاهرة المتصاعدة.
عدوان بلا نهاية وذاكرة لا تُشفى
لم يكن عدوان غزة حربًا خاطفة كما أرادتها قيادة الاحتلال الإسرائيلي، بل حرب استنزاف طويلة ومفتوحة تجاوزت حدود الزمان والمكان.
آلاف الجنود، بينهم من خدموا في الاحتياط لمرات متكررة، قضوا أكثر من 700 يوم في مناطق قتال كثيفة، شهدوا خلالها مشاهد الموت والدمار، وفقدان الرفاق، والخوف الدائم من كمائن فصائل المقاومة في غزة.
تقارير جيش الاحتلال الإسرائيلي تؤكد أن غالبية المنتحرين عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، إضافة إلى الاكتئاب والشعور بفقدان الهدف بعد العودة إلى الحياة المدنية.
الكثير منهم وجد نفسه غير قادر على النوم أو التفاعل مع أسرته أو العودة إلى الدراسة والعمل.
بعضهم لجأ إلى الكحول والمخدرات، وآخرون اختاروا الطريق الأقصر: رصاصة واحدة تنهي الصراع الداخلي.
صحيفة “هآرتس” العبرية كشفت أن آلاف الجنود تركوا الخدمة القتالية فعلاً، بعضهم فرّ من وحداته، والبعض الآخر قدّم تقارير طبية مزيفة للتهرب من العودة إلى غزة.
لكن الأخطر، بحسب الصحيفة العبرية، هو أن “الجيش أجبر بعض المصابين نفسيًا على العودة إلى الجبهات”، ما جعل الانتحار بالنسبة لهم الخيار الأخير الممكن”.
ثلاثة ملايين مستوطن في عيادة الاضطراب
الأزمة لا تقتصر على جنود الاحتلال. فحسب بيانات وزارة صحة الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، يعاني نحو 3 ملايين “إسرائيلي” بالغ اليوم من اضطرابات نفسية تتراوح بين القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة.
هذه النسبة تمثل ثلثي سكان الكيان الإسرائيلي وبزيادة تسعة أضعاف عمّا كان عليه قبل السابع من أكتوبر، ما يجعلها أكبر قفزة نفسية في تاريخ الكيان الإسرائيلي.
صحيفة “جيروزالم بوست” حذّرت في تقريرها بعنوان “النظام الصحي في إسرائيل أمام أكبر أزمة نفسية في تاريخه” من أن 30% من سكان الكيان قد يعانون في الأشهر المقبلة من اضطرابات نفسية بدرجات متفاوتة، في ظل نظام صحي هش يعاني من نقص التمويل وضعف البنية التحتية.
نقص فادح في الكوادر الطبية
لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في الكيان الإسرائيلي الألف طبيب فقط، أي طبيب واحد لكل 9 آلاف شخص تقريبًا، وهو معدل متدنٍ حتى بالمقاييس الدولية.
هذا العجز أدى إلى فترات انتظار قد تمتد لعدة أشهر للحصول على موعد علاج، ما يدفع كثيرين إلى الانهيار أو الانتحار قبل تلقي المساعدة.
تفاقم الأزمة أيضًا وصمة العار الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية فكثير من “الإسرائيليين” يتجنبون طلب العلاج خوفًا من اتهامهم بالضعف أو الجنون، خاصة داخل المؤسسة العسكرية التي ترى في الانهيار النفسي علامة على فقدان اللياقة القتالية.
“الجيش” في مأزق تأهيلي عميق
تقرير لموقع “واللا نيوز” العبري أشار إلى أن قسم إعادة التأهيل في جيش الاحتلال يتابع حاليًا أكثر من 81 ألف ملف إصابة من الحروب السابقة، بينها 31 ألف حالة نفسية.
وفي الحرب الجارية على غزة وحدها، سُجلت 20 ألف إصابة جديدة، نصفها ناتج عن أزمات نفسية مباشرة.
التقديرات العسكرية تتوقع أن يتجاوز عدد المصابين جسديًا ونفسيًا حاجز 100 ألف حالة بحلول عام 2028، ما يعني عبئًا هائلًا على ميزانية جيش الاحتلال وخطط تجنيده المستقبلية.
وبرامج الدعم الحالية مثل “ورشات الصمود النفسي” لم تعد كافية أمام حجم الانهيار، وفق اعتراف ضباط في هيئة الأركان.
من الثكنة إلى المجتمع
لم يعد الانهيار النفسي محصورًا داخل أسوار جيش الاحتلال.
ففي البيوت والمدارس والشوارع، تتصاعد مظاهر القلق الجمعي، إذ تعيش آلاف العائلات فقدانًا مزدوجًا: أبناء قُتلوا في العدوان على غزة، وآخرون انتحروا أو يعانون اضطرابات حادة.
استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت تراجعًا غير مسبوق في ثقة المستوطنين “الإسرائيليين” بمؤسسات الكيان الإسرائيلي، حتى داخل الطبقة الوسطى التي لطالما شكّلت قاعدة الاستقرار.
عضو الكنيست “غيلعاد كريو” حذّر علنًا من أن الانتحار بات ظاهرة وطنية مرتبطة مباشرة بزلزال السابع من أكتوبر.
انهيار في الداخل بعد عجز في الميدان
يرى محللون “إسرائيليون أن الأزمة النفسية المتفجرة ليست عارضًا صحيًا، بل مرآة لهزيمة داخلية متصاعدة.
فبعد أكثر من عامين من العدوان المفتوح ضد غزة، ورغم القوة النارية الهائلة التي استخدمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، لم تتمكن من تحقيق أي حسم عسكري أو سياسي.
تتراكم الخسائر البشرية والمادية، ويتآكل الإيمان العام بـ”الجيش الذي لا يُقهر”، فيما تتكشف هشاشة المشروع الصهيوني أمام ذاته.
تصف صحيفة “هآرتس” العبرية المشهد بعبارة لافتة: “الضغط النفسي يسقط الجنود واحدًا تلو الآخر، والعدو هذه المرة ليس حماس، بل الذكريات التي لا تموت”.
ورغم محاولات الرقابة العسكرية في الاحتلال الإسرائيلي تقليص تغطية هذه الكارثة، لم يعد بالإمكان إخفاؤها بعد أن بدأت التحقيقات البرلمانية في “الكنيست” تتناول علنًا ملفات الانتحار واضطرابات ما بعد الصدمة بين العسكريين.
هزائم صامتة.. وكيان يتآكل من الداخل
ما يواجه الكيان الإسرائيلي اليوم يتجاوز نطاق الطب النفسي أو الخطاب الأمني.
فالمجتمع الذي بُني على “الخوف الدائم” و”العسكرة المستمرة” يعيش اليوم ارتدادًا وجوديًا، إذ تتحول آلة القتل إلى عبء ثقيل على أبنائها، وتتحول الانتصارات المزعومة إلى هزائم داخلية صامتة.
الاحتلال الطويل والحروب المتكررة ولّدت جيلاً كاملاً مصابًا بالاضطراب النفسي والعدمية.
وكلما حاولت قيادة الاحتلال الإسرائيلي السياسية والعسكرية الهروب إلى الأمام بالمزيد من القوة، ازداد نزيفها الداخلي اتساعًا.
يقول أحد الجنود المسرّحين لصحيفة “معاريف” العبرية: “لم أعد أخاف من أعداء إسرائيل، بل من نفسي. أخاف أن أستيقظ في الليل وأفعل ما فعله رفاقي”.
مجتمع ينهار من الداخل
الأزمة النفسية التي تضرب الكيان الإسرائيلي اليوم ليست مجرد مأساة إنسانية، بل علامة على تفكك مشروعها الوجودي.
الانتحار، الهروب من الخدمة، الاكتئاب الجماعي، والعجز الطبي كلها مؤشرات على كيانٍ يفقد توازنه بين الواقع والوهم.
ومع استمرار الاحتلال والعدوان على غزة، تتسع الفجوة بين الجسد العسكري والعقل الجمعي.
إنه الانهيار الصامت الذي لا يُقاس بعدد القتلى، بل بعدد الذين فقدوا الرغبة في الحياة داخل كيانٍ اعتاد أن يعيش على الخوف.