في الوقت الذي ترفع فيه الولايات المتحدة شعار “السلام العالمي”، تكشف الوقائع عبر عقودٍ من التدخلات أنّ هذا الشعار لم يكن يوماً مشروع تهدئة بقدر ما كان غطاءً سياسياً لممارسة القوة وتمديد النفوذ.
فدولة لم يتجاوز عمرها السياسي 250 عاماً قضت أكثر من 93% من تاريخها في حروب واجتياحات وصناعة انقلابات، مسجلةً أكثر من 90 تدخلاً عسكرياً موثقاً ترك بصماته على خرائط العالم دماراً وركاماً.
سلامٌ للاستهلاك.. ومشروع هيمنة يتجدد
منذ خمسينيات القرن الماضي، قدّمت واشنطن خطاباً دبلوماسياً مزيّناً بشعارات “السلام” و”القيم الأخلاقية”، فيما كانت أدواتها الاستخباراتية والعسكرية تنفذ عمليات اغتيال وتخريب وتفكيك أنظمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
“كامب ديفيد” و”أوسلو” و”خطة مارشال” كلها نماذج لاستخدام السلام كغطاء لإعادة هندسة التوازنات، وفكّ الجبهة العربية، وتسهيل التمدد الإسرائيلي في المنطقة.
«السلام بالقوّة».. شعار قديم بوجهٍ جديد
في 15 يناير من العام الجاري، أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إحياء أطروحة «السلام من خلال القوّة» في سياق إعلانه عن وقف النار في غزة، قائلاً “سنواصل الترويج للسلام عبر القوّة في المنطقة، والبناء على زَخم وقف إطلاق النار لتوسيع اتفاقات السلام”، متبنّيًا فلسفة قديمة رافقت تاريخ القوى الإمبراطورية وصولًا إلى الاستراتيجية الأمريكية الحديثة، التي رسّخت هذا النهج من “خلق القوّة” إلى استخدامها الحاسم كما حدث في الحرب العالمية الثانية.
وينظر مراقبون إلى خطابه باعتباره استمرارًا لمسار أمريكي يستند إلى تثبيت الهيمنة عبر استثمار التحركات المشتركة مع “إسرائيل” في ملفات المنطقة، والتهديد بالقوّة ضد خصومها، بما يفرض “سلامًا” يناسب المصالح الأمريكية ويعزّز حضور “إسرائيل” في المشهد الإقليمي.
ومع العودة للتاريخ، تأتي أطروحة ترامج للسلام بالقوة، تتويجٌ لمسارٍ تاريخيٍّ طويل لتطوّر “مبادئ القوّة” في الاستراتيجية الأمريكية عبر عقودٍ مُتماديةٍ من الزمن، انطلاقًا من مبدأ “فنّ خلق القوّة” الذي أوضحه أستاذ الاستراتيجيا لورنس فريدمان في كتابه “تاريخ الاستراتيجية”، إذ عرّفها بأنها: “فنّ خلق القوّة، وهو فنٌّ يصعب إتقانه أو الإمساك به”، وهو المبدأ الذي ظلّ سائدًا حتى مطلع عقد الأربعينيات من القرن الماضي، قبيل الحرب العالميّة الثانية، ثمّ جرى التنظير بعد ذلك لمبدأ “استخدام القوّة”، وهو المبدأ الذي تُوِّج بإلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان خلال تلك الحرب (1945)، وأدّى إلى انتهاء الحرب واستسلام اليابان، وهو ما كان يعني أمريكيًّا تحقيق “السلام من خلال القوّة”.
من البلقان إلى بغداد.. كلما علا خطاب سلام واشنطن سقطت مدينة
الوعود الأميركية بـ”السلام الشامل” تحولت في البلقان إلى قصف، وفي العراق إلى غزو واحتلال وفوضى عابرة للحدود، ومع بوش الابن، تجسّد المشروع الأميركي بأوضح صورة، باستخدام “نشر الديمقراطية” كعنوان لغزو أفغانستان والعراق وتحويل الشرق الأوسط إلى ساحات عنف مفتوح، ثم جاء عهد ترامب ليطيح بما تبقى من أقنعة؛ إذ تحوّل “سلام المصالح” إلى سياسة رسمية، وارتبطت شعارات التهدئة باتفاقيات تطبيع تُوقَّع من جهة، بينما تُلقى القنابل الأميركية على رؤوس الفلسطينيين من جهة أخرى.
البحر الأحمر.. سلام على ظهر البوارج
اليوم تكرر المشهد في البحر الأحمر، فواشنطن أرسلت خلال الأشهر الماضية حاملاتها الحربية تحت عنوان “حماية الملاحة” لكنه في الأسام لحماية “إسرائيل” بعد أن فرضت قوات صنعاء حظر الملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي وباب المندب والمحيط الهندي اسنادا لغزة، فيما يرى مراقبون أن الهدف الحقيقي يتمثل في تعزيز وجود استراتيجي في أهم ممر مائي عالمي يربط آسيا بأفريقيا وأوروبا، ويمر عبره شريان تجارة الطاقة.
لكن هذا التموضع لم يمر دون اعتراض حاسم، إذ مثلت الجمهورية اليمنية بقيادة صنعاء أبرز الدول الرافضة للوجود العسكري “الأميركي – الإسرائيلي” في البحر الأحمر، وقدمت صنعاء نموذجاً استثنائياً في التصدي عسكريًأ لمحاولات فرض واقع جديد على المنطقة، دعماً للموقف الشعبي والإنساني تجاه غزة.
عجزٌ عسكري.. وفشلٌ في صناعة السلام
تاريخ الولايات المتحدة حافل بنهايات مهينة، من هزيمة فيتنام، إلى انهيار الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، إلى الفوضى التي خلفها غزو العراق.
وعندما تتعثر آلة الحرب الأميركية أو تتورط في استنزاف طويل، تلجأ واشنطن إلى خطاب “السلام” كأداة للالتفاف أو الانسحاب التكتيكي، بينما تستمر في تسليح الأطراف المعتدية وتوفير المظلة السياسية لها.
الفيتو الأميركي.. لحظة سقوط القناع
الاستخدام الأخير لحق النقض ضد قرار وقف إطلاق النار وحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة على مدى العامين الماضيين، مثّل لحظة فاصلة في انهيار الخطاب الأميركي، فبينما طالب العالم بوقف المجزرة، اختارت واشنطن أن تمنح “إسرائيل” ضوء أخضر للاستمرار، لتعلن بشكل صريح أن مصالحها الجيوسياسية تتقدم على أي اعتبارات إنسانية أو حقوقية، في موقع وضع الولايات المتحدة في عزلة أخلاقية متصاعدة، مؤكداً أنها ليست وسيطاً بل طرفاً مباشراً في الصراع.
سلامٌ يُشعل الحروب
من غزة إلى العراق، ومن البحر الأحمر إلى أفغانستان، تتكرر ذات الصورة “شعارات سلام” تُرفع في العلن، ومشاريع سيطرة تُنفَّذ على الأرض، فالولايات المتحدة لا تُنتج حلولاً بقدر ما تُعيد إنتاج الصراعات، ولا تطرح مبادرات بقدر ما تستخدمها لفتح أبواب نفوذ إضافية.
وفي المحصلة، الوقائع تكشف أن السلام الذي ترفعه واشنطن ليس سلاماً بالمعنى الحقيقي، بل أداة سياسية تُستدعى كلما احتاجت إدارة البيت الأبيض لتبرير وجود عسكري أو تمرير مشروع نفوذ جديد.
وفي ظل التحولات الدولية وموازين القوى الصاعدة، يبقى السؤال مفتوحاً أمام المنطقة.. إلى متى سيبقى قرار الحرب والسلام مرهوناً بالاستراتيجيات الأميركية؟، وإلى متى ستُستخدم كلمة “السلام” كغطاء لفرض خرائط احتلال تتجدد مع كل إدارة جديدة؟