تفكيك الدول وتمييع مفهوم السلام.. “هندسة الفوضى” في الشرق الأوسط الكبير يعود من بوابة الفاشر وشرق اليمن
تحليل| وكالة الصحافة اليمنية
يشهد الوضع في الوطن العربي تصاعدًا لافتًا في حدة العمليات العنيفة التي تنفذها جماعات مسلحة موالية لقوى إقليمية ودولية ذات نزعة استعمارية، وسط تساؤلات متزايدة حول جدوى القانون الدولي وقدرته على حماية المدنيين ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة.
وتخشى مؤسسات حقوقية وإنسانية وخبراء حقوقيون أن يؤدي هذا الغياب المزمن للمساءلة في تعزيز الإفلات من العقاب، ويكرّس مناخ الإفراط في استخدام القوة ضد المدنيين، ما يجعل الوطن العربي عرضة لانفجارات جديدة من العنف الممنهج تحت ذرائع أمنية أو سياسية.
من غزة إلى الفاشر: خيطٌ واحد من الانتهاكات
تُنظر الحوادث الأخيرة في مدينة الفاشر وعدد من المدن السودانية على أنها حلقة في سلسلة ممتدة من أنماط الاعتداءات التي شهدتها مناطق عربية أخرى مثل غزة ولبنان وسوريا واليمن.
حيث تواترت التقارير بشأن الأحداث الدامية في عدد من الدول العربية عن استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، في سياق عمليات قمع أو تدخلات عسكرية تتصل مباشرة بسياسات دولية تتزعمها الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، أو تُدار عبر حشد مسلح من أدواتهما الإقليمية والمرتزقة المحليين.
وتشير التقارير الحقوقية إلى أن هذه العمليات تتشارك في سمة واحدة، وهي الاستخدام المفرط للقوة، والاعتداءات الواسعة ضد السكان المدنيين، في ظل صمت أو تواطؤ دولي يمنح مرتكبي الجرائم شعورًا بالأمان من أي مساءلة قانونية.
وتُتهم الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي بالعمل على إدارة هذه الأنماط التدميرية والوحشية من خلال شبكة واسعة من الحلفاء الإقليميين والجماعات المسلحة التي تنفذ أجندات تخدم توجهات واشنطن و الكيان الصهيوني في المنطقة.
وتهدد هذه الديناميات بنقل دوامة العنف إلى مناطق عربية وإسلامية أخرى إذا لم تترافق مع آليات حماية ووسائل فعالة لوقف الانتهاكات.
الشرق اليمني
بدوره شهد الشرق اليمني، من حضرموت إلى المهرة، خلال الأسابيع الماضية تحولات عسكرية وأمنية متسارعة أدّت إلى تفكك فصائل تابعة للتحالف وصعود قوى مدعومة من الإمارات، في ظل سباق محموم للسيطرة على الموارد والمنافذ.
غير أن هذه التطورات، وفق قراءة أوسع، ترتبط بصراع دولي على ممرات البحر العربي وباب المندب وثروات النفط والغاز اليمني، حيث تتعامل القوى الدولية مع المنطقة كمساحة نفوذ استراتيجية أكثر من كونها ملفًا محليًا.
هذا التداخل جعل الشرق اليمني ساحة تتقاطع فيها مصالح دول كبرى وإقليمية، تعمل عبر ترتيبات مستمرة لإبقاء المنطقة في حالة انقسام تسمح بالتحكم بالموانئ وخطوط الملاحة والثروة، ما يحوّل ما يبدو صراع فصائل إلى فصل أعمق من صراع دولي على القرار السيادي اليمني ومستقبل البلاد.
وفي تعليق على هذه التطورات، يشير الشخصية السياسية المعروفة الدكتور إسماعيل إبراهيم الوزير، أستاذ الشريعة والقانون في جامعة صنعاء ونائب وزير العدل السابق، إلى أن ما يجري في الشرق اليمني يتجاوز التحولات العسكرية المباشرة، معتبرًا أن المشهد يعكس إعادة رسم للنفوذ الدولي في المناطق المطلة على البحر العربي.
ويرى إسماعيل الوزير أن تغيّر موازين القوة بين الفصائل ليس صراعًا داخليًا صرفًا، بل ترتيبات خارجية تستهدف السيطرة على الموانئ والثروات النفطية في حضرموت والمهرة.
وبحسب تقديره، فإن القوى الدولية تتحرك وفق قناعة بأن قيام دولة يمنية موحدة وقوية سيغيّر معادلات النفوذ في البحر العربي وباب المندب، ما يدفع تلك القوى إلى الإبقاء على اليمن في حالة سيولة وانقسام تحول دون تشكّل قرار وطني مستقل.
المقاومة كحقّ إنساني.. ورفض الاستسلام كخيار للبقاء
في المقابل، يرى محللون عسكريون أن الحفاظ على القدرة على المقاومة والاحتفاظ بوسائل الدفاع الذاتي يمثل لدى المقاومين الفاعلين وسيلة رئيسية لردع حملات القمع والتوسع الاستعماري، وبات ضرورة وجودية، لا مجرد خيار سياسي.
ويؤكد هؤلاء أن مواقف الاستسلام أو الحياد في مواجهة أدوات القمع والاحتلال التي غالبًا ما تفضي إلى تفاقم الخسائر البشرية والمادية، لا تحمي المدنيين، بل تزيد من معاناتهم، الأمر الذي تجلى مؤخراً في أحداث مدينة الفاشر السودانية التي انتهت بمجازر بحق السكان وعلى وجه الخصوص النساء والأطفال بعد سيطرة المليشيات على المدينة، حيث أظهرت المشاهد المصورة من المدينة جرائم إعدام وحشية بحق الأمهات وأطفالهن.
ومع ذلك، فإن التحول من الوعي الشعبي المقاوم إلى موقف سيادي منظم يتطلب مؤسسات سياسية ومجتمعية قادرة على اتخاذ قرارات مدروسة توازن بين حماية المدنيين وصون السيادة الوطنية مع الخيارات الاستراتيجية للرد على المخططات التدميرية للقوى الاستعمارية.
شرعنة “سلام الضحية” وتزييف الوعي
تلعب وسائل الإعلام الغربية ومنصات ما يُعرف بنشطاء التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في إعادة صياغة الوعي العام حول الصراعات، من خلال تصوير المقاومة كفعل عدائي، وتقديم الاستسلام باعتباره خيار “السلام العقلاني”.
وتعمل تلك المنصات والوسائل الإعلامية الغربية، بحسب المراقبين العرب، على ترويج ما يُعرف بـ”السلام الوهمي” الذي يشرعن هيمنة الأقوياء ويجرّم رد فعل الضحايا، فيما تُسهم حملات الدعاية الموجهة في تهميش حق الشعوب في الدفاع عن نفسها، وتحويل مطالبها بالحرية إلى اتهامات بـ”العنف” أو “التطرف” أو “الإرهاب”.
وتحت لافتات “السلام الوهمي” و”التطبيع الواقعي”، تسوّق في الوقت نفسه – هذه الوسائل والمنصات – لحملات تسليح جماعات موالية للغرب أو للكيان الإسرائيلي تحت ذرائع “مكافحة الإرهاب”.
ويرى باحثون أن هذا التناقض الصارخ يعكس ازدواجية المعايير في السياسة الإعلامية الغربية، التي تبرر العدوان حين يصدر من حلفائها، وتدين أي مقاومة حين تصدر من ضحاياهم.
تسليح غير مشروع ومسؤوليات غائبة
وفي الوقت ذاته، تثير قضايا تسليح فصائل المرتزقة المحليين وعمليات نقل المعدات العسكرية جدلاً واسعاً حول مسؤولية الدول المصدرة للسلاح والرقابة على سُبل توظيف هذه الأسلحة.
كما أعادت تقارير عن وصول أسلحة بريطانية حديثة – بيعت للإمارات ثم ظهرت بيد قوات الدعم السريع في السودان – وقبلها كثر الحديث عن أسلحة أمريكية وبريطانية بيعت للإمارات ثم ظهرت بيد عناصر إرهابية من تنظيمي “القاعدة وداعش” في محافظات أبين ووادي حضرموت وشبوة والبيضاء ومأرب في اليمن ما طرح تساؤلات عدة حول مسؤولية الدول المصدّرة للسلاح ومدى التزامها بالمعايير الأخلاقية والرقابية على استخدام هذه المعدات في النزاعات.
وتقول منظمات حقوقية دولية، إن نقل الأسلحة إلى أطراف متورطة في جرائم حرب ضد الإنسانية كالكيان الإسرائيلي والجماعات الإرهابية في الوطن العربي يعدّ انتهاكًا صريحاً للقانون الدولي، غير أن الحكومات الغربية تتعامل مع هذه القضايا بتساهل واضح، ما يشجع على استمرار تدفق الأسلحة إلى مناطق النزاع.
مستقبل المنطقة
ويرى حقوقيون أن ما يجري في الشرق الأوسط، لا سيما الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في غزة ولبنان واليمن على يد القوى الاستعمارية من جهة ومن جهة أخرى في سوريا ما بعد الأسد وأخيراً السودان على يد مرتزقة محليين ضمن جماعات مسلحة متطرفة، تفرض على الشعوب العربية والإسلامية تطوير استجابات المقاومة السياسية والعسكرية والشعبية بشكل أكثر فعالية، قادرة على المبادرة، والتصدي لمخططات القوى الاستعمارية.
كما يبرز أن حماية المجتمعات لا تتطلب مجرد حيازة السلاح فقط، بل أيضاً عبر بناء منظومة وطنية عادلة تضمن حقوق المواطنين وتكبح نزعات الانتقام والانقسام الداخلي، وتؤسس لتوازن يمنع انزلاق المنطقة برمتها نحو مزيد من الفوضى والانقسام.
وفي غياب حلول سياسية عادلة وشاملة ومقاومة وطنية فاعلة وقادرة، تبقى الدول والمجتمعات العربية الخانعة لمخططات القوى الاستعمارية الأكثر هشاشة، عرضة لمخططات التفتيت والاختراق والاستهداف، وإعادة تشكيلها بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية الجديدة، ما يهدد بتقويض استقرار المنطقة برمتها على المدى البعيد.