المصدر الأول لاخبار اليمن

علاقة”معاداة السامية”بالحركة الصهيونية وتأثيرها على القضية الفلسطينية

دراسات| وكالة الصحافة اليمنية

لم تُدار المعركة على فلسطين بالسلاح وحده، بل أُديرت – ولا تزال – بمنظومة مفاهيم صيغت بعناية لتجريم الضحية وتبرئة الجلاد، وفي مقدمة هذه المفاهيم، يقف مصطلح “معاداة السامية” بوصفه أداة سياسية صلبة استُخدمت لإعادة تعريف الصراع، وإغلاق أي نقاش نقدي حول الصهيونية والاحتلال.

وفي زمن تتكاثر فيه السرديات الجاهزة حول فلسطين، وتُختزل فيه القضايا التاريخية الكبرى في شعارات أخلاقية مُسيّسة، تبدو العودة إلى تفكيك المفاهيم خطوة ضرورية لفهم ما يجري، ومن هذا المدخل، جاءت الورقة البحثية التي قدمها الباحث  الدكتور رياض محمد الصفواني، من دائرة الدراسات التاريخية والأثرية في الحلقة النقاشية التي أقامها مركز البحوث والدراسات بالهيئة العليا للبحوث والعلوم والتكنولوجيا والابتكار بصنعاء في الـ13 من ديسمبر 2025 ، ” .

وأعادت الورقة البحثية التي حملت عنوان “العلاقة بين معاداة السامية والحركة الصهيونية وتأثيرها على القضية الفلسطينية ” قراءة هذا المفهوم قراءة تاريخية وسياسية  ، وكيف تحوّل من توصيف لغوي وثقافي إلى أداة أيديولوجية وسياسية فاعلة في مشروع استيطاني غيّر وجه المنطقة.

 

السامية… المفهوم الذي جرى اقتطاعه من سياقه

ينطلق الصفواني في ورقته من نقطة مفصلية: تعريف “السامية” المصطلح  الذي يُعنى بالشعوب التي تنتسب من سام بن نوح، وسكنت الجزيرة العربية والهلال الخصيب: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، كالعرب والكنعانيين والبابليين والأشوريين والكلدانيين والأراميين.

غير أن هذا المعنى الواسع – بحسب الورقة – تعرّض لعملية اقتطاع متعمّدة، جرى خلالها ربط “السامية” باليهود وحدهم، تمهيدًا لولادة مصطلح “معاداة السامية” في أوروبا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وتوضح الورقة حقيقة ان اليهود الحاليين ليسوا من بين الشعوب السامية ، باعتبار ان بنو اسرائيل في القرن الثالث عشر ق.م. لم يعد لهم نسل يُذكر في زمننا، وإن ادعت السرديات الصهيونية خلاف ذلك، فيهود اليوم ينحدرون من مجموعات بشرية مختلفة، ولا تربطهم بالسامية وبني “إسرائيل” صلة إثنية، وهو ما يقره به علماء الانتروبولوجيا اليهود، ومنهم “قائش” الذي خلص في نتائج دراسته لعينات مختلفة من اليهود في دولة الكيان الصهيوني إلى أن 95% من اليهود ليسوا من بني “إسرائيل” التاريخ ، وإنما هم أجانب متحولون إلى الدين اليهودي أو مختلطون، وعليه يقاس بقية اليهود في العالم .

ويستشهد الباحث بدراسة علمية للباحث جمال حمدان والذي يقول أن يهود العالم بصفة عامة مختلطون في جملتهم اختلاطًا جذريًا عميقًا ، وأنه لا رابطة بينهم إلا الدين فقط.

وبشأن ظهور المصطلح  يشير الباحث الى ان المصطلح ظهر  أول مرة في ألمانيا عام 1860م على لسان المستشرق اليهودي النمساوي “ستانيف شنايدر” ،وصاغه الصحفي الألماني “قيلهام مار” عام 1879م، لوصف حملات العداء والكراهية لليهود لاستدرار عطف الدوائر السياسية، وإظهار اليهود على تعاقب العصور، ولاسيما في القرون الثامنة عشر والتاسع عشر، وبلغت تلك المظلومية أوجها خلال سنوات الحرب العالمية الثانية 1939-1945م عندما تعرض اليهود الألمان وغيرهم من يهود الدول التي غزاها هتلر لما عُرف بالمحرقة (الهولوكست) .

 

سردية فوق النقد 

تحتل المحرقة (الهولوكوست) حيّزًا مركزيًا في الورقة البحثية، باعتبار ما جرى لها من توظيف،  بعد الحرب العالمية الثانية.

ويشير الصفواني إلى أن تحويل المحرقة إلى سردية «فوق النقد» مكّن الحركة الصهيونية من تحقيق مكاسب سياسية ومالية ضخمة، ووفّر غطاءً أخلاقيًا لمشروعها الاستيطاني في فلسطين .

وحسب ما جاء في الورقة فان تضخيم عدد ضحايا المحرقة إلى ستة ملايين، بل وحتى تقليص العدد إلى بضع مئات الآلاف كان هدفه ليس فقط ابتزاز ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وإجبارها على دفع تعويضات مالية سنوية لليهود بلغت ستين بليار دولار حتى عام 2000م، بل وكسب التعاطف العالمي على القضية اليهودية، ويستشهد الباحث بما أورده  الأكاديمي اليهودي الأمريكي “فينكليشتاين” في كتابه “صناعة الهولوكست”، الذي يروي بموضوعية كيف تم تضخيم قضية المحرقة من قبل الصهيونية العالمية لتبرير السياسات “الإسرائيلية “العدوانية ضد العرب الفلسطينيين، وتبرير دعم أمريكا لتلك السياسات، مشيراً إلى أن “النازيين لم يقتلوا اليهود فقط، بل ذبحوا أيضاً “الغجر” وكذلك أعداد من الشيوعيين والسلاف وفق “كتاب جارودي “الأساطير المؤسسة للسياسة “الإسرائيلية”، وأن “تجار المحرقة يرفضون الإقرار بهذه الحقيقة”، لأسباب ثلاثة: فهم أولاً يعتبرون حياة الغجر لا تساوي حياة اليهود، ومن ناحية ثانية لا يريدون مشاركة مكاسب المحرقة مع أي أحد، كما أن الاعتراف بقتل الغجر سيؤدي من ناحية ثالثة إلى دحض ادعاءات المحرقة التي تم بناؤها على أساس معاداة السامية.

 

البداية الفعلية لتوظيف مصطلح معاداة السامية

حسب الورقة البحثية التي استندت لدراسات فقد كان البداية الفعلية لتوظيف مصطلح معاداة السامية  في أعقاب اضطهاد السلطات الروسية لليهود الروس، وذلك على إثر اغتيال جماعة من اليهود للقيصر الإسكندر الثاني عام 1881م، حيث قامت السلطات الروسية آنذاك بحملات اعتقال وملاحقات واسعة لليهود، فهاجر الكثير منهم إلى دول وسط وغرب أوروبا وأمريكا،  واستغلوا علاقتهم بسكان هذه المناطق فوضعوهم بفوائد مالية باهظة، ما أدى الى تأزم علاقتهم بالسكان ،واستغلت الأوساط السياسية اليهودية تلك الحالة في الترويج لمعاداة السامية، وعملت على دفع  السلطات الغربية لتبني قضية اليهود كجماعات مضطهدة مع التفكير في إيجاد موطن لهم، كحل عملي  منهم، وهو الهدف الذي نشأت من أجله الحركة الصهيونية،  حيث رأى هرتزل أن حل مشكلة العداء للسامية يكمن في رحيل اليهود من الأوطان التي يعيشون فيها إلى دولة جديدة.

 

الحركة الصهيونية… من الفكرة إلى التنظيم

في هذا المحور، تعود الورقة إلى مؤتمر بازل عام 1897، الذي شكّل نقطة تحوّل في مسار الحركة الصهيونية، حيث انتقلت من فكرة أيديولوجية إلى مشروع سياسي منظّم ، ويبيّن الصفواني كيف جرى توظيف النصوص الدينية

التاريخية رغم افتقارها إلى سند تاريخي علمي راسخ لإنتاج سردية “الحق التاريخي”، وأرض الميعاد  ، والتي  بناءًا عليها جاءت دعوة يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين، لزعم أنها أرض الميعاد، التي منحها الله لشعبه المختار.

كما تتناول الورقة الدور الذي لعبه رأس المال اليهودي والمنظمات المسيحية الصهيونية في تمويل المشروع، وتوفير الغطاء السياسي له، في سياق تلاقت فيه المصالح الدينية مع الطموحات الاستعمارية.

ووفق ما أوردته الورقة فانه من أجل  هذه الغاية بدأت المنظمة الصهيونية تتلقى الدعم المالي السخي من كبار أثرياء اليهود في أوربا، وأمريكا، ومن المنظمات المسيحية الصهيونية ، التي تؤمن بأن اليهود شعب الله المختار الذي يجب المساهمة في تمويل حملات نقلهم الى فلسطين تحقيقا للنبوءة الانجيلية ، والتي هي أساساً من اختلاق اليهود .

 

بريطانيا وأمريكا… حين تتقاطع المصالح مع الأيديولوجيا

خصّص الصفواني جزءًا مهمًا من ورقته لتحليل الدور البريطاني في تمهيد الطريق لقيام الكيان الصهيوني، بدءًا من احتلال فلسطين بعد سقوط الدولة العثمانية وصولا الى وعد بلفور، مرورًا بسياسات الانتداب التي سهّلت الهجرة اليهودية ونزعت سلاح الفلسطينيين، وصولًا إلى تسليم الأرض فعليًا للحركة الصهيونية.

أما الدور الأمريكي، فيُقدَّم  في الورقة بوصفه امتدادًا لهذا المسار، حيث جاء الاعتراف السريع بالكيان الصهيوني عام 1948 نتيجة تلاقي المصالح الاستراتيجية مع التأثير الديني والضغط السياسي للوبيات الصهيونية، في تناقض صارخ مع الخطاب الأمريكي المعلن حول الديمقراطية وحقوق الشعوب.

ويذكر الباحث ان مصالح اليهود تلاقت مع مصالح دول الغرب الاستعمارية التي رات ان غرس هذا الكيان في هذه المنطقة الاستراتيجية يخدم مصالحها ، ويمثل  حاجزًا بشريًا وجغرافيًا يفصل مشرق العالم العربي عن مغربه، ويحول دون اتحاده ونهوضه، وهو أمر جرى التخطيط له في وقت مبكر، منذ أن دعا رئيس الوزراء البريطاني “كاميل بنزمان” في عام 1905م إلى عقد مؤتمر أوروبي، ليُحث مستقبل الاستعمار  في المشرق العربي، ونتج عنه وثيقة سرية نسبت إليه، نصت أبرز بنودها على إقامة دولة حاجز في فلسطين  تحول دون اتصال مشرق العالم العربي بمغربه، وتحمي المصالح الاستعمارية للغرب في المنطقة.

 

تأثير “العداء للسامية” على القضية الفلسطينية

وفق الورقة فان المجازر التي اقترفتها اليهود الصهاينة في فلسطين تحت شعار معاداة السامية كشعار مضمر بدءً بمجزرة قرية “دير ياسين” التي راح ضحيتها 254 فلسطينياً جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ وحتى طوفان الأقصى في أكتوبر 2023م، لم تكن لتتم بدون تأصيل ديني وتاريخي ، حيث تؤصل  النصوص الدينية المختلفة التي تسرد جرائم بني” إسرائيل” ضد شعوب فلسطين القديمة، لهذه الجرائم ، وتشرعن مصطلح معاداة السامية، وتم تضمينها مع قضية المحرقة في المناهج الدراسية اليهودية، لإبقاء الوعي الجمعي اليهودي في حالة تذكر دائم.

 

“معاداة السامية” كدرع دائم

وتخلص الورقة إلى أن مفهوم “معاداة السامية” لم يتوقف عند حدود التأسيس، بل تحوّل إلى درع دائم يُستخدم لتجريم أي نقد للسياسات الصهيونية، ووصم كل معارضة للاحتلال بأنها شكل من أشكال الكراهية العنصرية.

قد يعجبك ايضا