يُعد انحياز الإعلام الغربي في تغطية جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وخاصة خلال العدوان على غزة (2023-2025)، قضية محورية أثارت انتقادات واسعة من قبل باحثين وحقوقيين.
أظهرت دراسات تحليلية حديثة أن هذا الانحياز ليس مجرد خطأ عابر، بل هو نمط هيكلي يؤثر على إدراك الرأي العام العالمي.
مؤخرًا، تعرضت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، لانتقادات حادة جراء دورها في تشكيل الفهم العام لحرب الإبادة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، حيث عمدت إلى تقليل واحدة من أكثر الحملات العسكرية وحشية في القرن الحادي والعشرين، وفق ما أكده موقع “ميدل إيست آي”.
تسجيل مصور جديد، أظهر إحدى من وصفت بالـ”مبلغين” وهي تتحدث عن مخالفات للمهنية، حيث أعطت إدارة (بي بي سي) موظفيها تعليمات صارمة لحماية الإسرائيليين خلال التغطيات ومنع استخدام كلمة “إبادة جماعية” خلال النشرات الإخبارية.
وكشف تقرير جديد صادر عن مركز مراقبة الإعلام (CfMM) عن نمط مدمر في تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) للحرب في غزة، حيث جاء فيه أن الشبكة الإخبارية لطالما فضلت ودعمت بشكل مستمر الأصوات الإسرائيلية، مقابل تجريد معاناة الفلسطينيين من إنسانيتها، فضلا عن رصد رفض متعمد لتسمية “الإبادة” لما يجري في القطاع المحاصر.
وأضاف المركز، أن الأمر لا يتعلق بأخطاء تحريرية طفيفة فحسب، بل بفشل ممنهج في معاملة الفلسطينيين كبشر كاملين، كأشخاص تستحق حياتهم وموتهم أن يتم تمثيلهم بنفس الكرامة والجدية والوضوح الأخلاقي الذي يُمنح للإسرائيليين.
كما رصدت مراكز بحوث تجنب “بي بي سي” استخدام مصطلحات مثل “مستوطنات” و”حصار” و”فصل عنصري”.
أنماط الانحياز الإعلامي للاحتلال
الإعلام الغربي بشكل عام تحيز للاحتلال الإسرائيلي، وأغفل الكثير من المصطلحات التي تطلق على “إسرائيل” وما تقوم به من جرائم في غزة.
أنماط الانحياز الإعلامي الغربي للحرب في غزة، أشارت إليها العديد من الدراسات والتقارير، ركزت فيها على الرواية الإسرائيلية، ففي تقرير صادر عن “Media Bias Meter” في نوفمبر 2025، جرت دراسة أكثر من 54,000 مقالة في منافذ إعلامية غربية رئيسية “نيويورك تايمز” الأميركية، هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، “ذا غلوب أند ميل” الكندية، “لوموند” الفرنسية، “دير شبيغل” الألمانية، “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية، “لا ليبر” البلجيكية، إضافة إلى “دي تليخراف” الهولندية.
وجد أن الكلمات المتعلقة بالاحتلال تظهر في 99.5% من العناوين ذات الصلة، بينما تظهر “فلسطين” في 0.5% فقط، وتوصلت هذه المؤسسات، رغم اختلافاتها السياسية واللغوية والوطنية، إلى أنها تشترك في نمطٍ واحد من التحيّز، يعزّز السرديات الإسرائيلية ويهمّش الأصوات الفلسطينية.
قال أحد مؤلفي التقرير جي جي درويش: “تكشف البيانات شيئاً أعمق من مجرد انحياز أيديولوجي”، موضحاً: “المسألة ليست مرتبطة بميل هذه المؤسسة أو تلك لليمين أو اليسار، بل تتعلّق بتركيز الصحافة الغربية على المنظور الإسرائيلي، وحصر رؤية الفلسطينيين وحياتهم بعدسة الإرهاب، وتطبيع العنف الذي تمارسه إسرائيل باعتباره دفاعاً عن النفس”.
وفي دراسة لمركز مراقبة الإعلام البريطاني، في يونيو 2024، أشارت إلى أن “بي بي سي” تغطي الوفيات الإسرائيلية بنسبة 33 مرة أكثر لكل ضحية مقارنة بالوفيات الفلسطينية، مع استخدام لغة عاطفية أقوى للإسرائيليين (مثل “قتل” بدلاً من “موت”).
كما اتهم صحفيون داخل “سي إن إن” و “بي بي سي” إداراتهم بتدخل لتقليل التركيز على الجرائم الإسرائيلية.
الراوية الصهيونية
إن الانحياز الغربي للرواية الصهيونية، هي نتاج ضغوط سياسية وروابط ثقافية تجمع الغرب بالاحتلال، كما أن معظم ما يتم نشره وتداوله يعتمد على مصادر عبرية، رسمية أو خاصة.
لقد صور الإعلام الغربي الحرب على غزة، على أنها صراع متكافئ بين جانبين، دون إيضاح حقيقة أن هذه الحرب استمرار لعقود من الاستعمار والحصار والتشريد.
كما يتم تصوير أحداث الصراع وكأنها بدأت فقط في 7 أكتوبر 2023، مع تجاهل تام لحصار غزة المستمر منذ 17 عاماً أو الاحتلال المستمر منذ عقود.
ورغم تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة الـ70 ألفا، معظمهم من النساء والأطفال؛ إلا أن تقرير مركز رصد الإبادة الجماعية يُظهر أن تغطية (بي بي سي) للأحداث وصفت الفلسطينيين في أغلب الأحيان بأنهم “ماتوا” أو “قُتلوا” في غارات جوية، دون الإشارة إلى الجهة التي شنتها، في المقابل، وُصفت “الضحايا الإسرائيليين” بعبارات أكثر إثارة للمشاعر، مثل “ذُبحوا” و”نُفذت فيهم مجازر” و”قُتلوا بوحشية”.
وبحسب تحليل أجراه مركز دراسات الإعلام الرقمي في يونيو لأكثر من 35000 مادة من محتوى (بي بي سي)، أظهر أن الوفيات الإسرائيلية حظيت بتغطية إعلامية أكبر بمقدار 33 مرة لكل حالة وفاة، وباستخدام لغة عاطفية أكثر بكثير.
تعتمد وسائل الإعلام الكبرى مثل BBC وCNN وNew York Times) أساليب لغوية تفرق بشكل حاد بين الضحايا، فتعمد إلى أنسنة الاصابات بين الإسرائيليين، بذكر أسمائهم وأعمارهم وقصصهم الإنسانية وهواياتهم.
أظهرت دراسة لمعهد الدوحة أن شبكات مثل MSNBC تذكر تفاصيل شخصية للضحايا الإسرائيليين بنسبة تفوق 13 ضعفاً مقارنة بالفلسطينيين.
من جهة ثانية تقوم نفس وسائل الإعلام بتجهيل الضحايا الفلسطينيين، غالباً ما يُشار إليهم كأرقام أو مجموعات “توفيت” أو “لقيت حتفها” دون ذكر الفاعل، بينما يُقال عن الإسرائيليين إنهم “قُتلوا” أو “ذُبحوا” بأيدي حماس.
يُقدم الفعل الإسرائيلي في الإعلام الغربي دائماً في إطار “حق الدفاع عن النفس” ورد الفعل، بينما تُوصف العمليات الفلسطينية بـ “الإرهاب” أو “الهجمات غير المبررة”.
كشفت تقارير تحليلية (مثل تقرير Framing Gaza 2025) عن مفارقات صارخة تتعلق بشرعنة جرائم الاحتلال الإسرائيلي، والتعتيم على وحشيتها، باستخدام “المبني للمجهول” فـ عند مقتل فلسطينيين، تُستخدم عناوين مثل “انفجار في غزة يخلف ضحايا”؛ أما عند مقتل إسرائيليين، يُستخدم المبني للمعلوم: “صواريخ حماس تقتل إسرائيليين”.
في تقرير مشابه للموقف أعلاه، وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية، أسرى الاحتلال بالنساء والأطفال، فيما تصف أسرى فلسطين في نفس السياق بـ “نساء وأفراد دون الـ 18 عاماً”.
لقد سارعت وسائل إعلام عالمية لتبني روايات غير مؤكدة (مثل قصة الـ 40 طفلاً المقطوعي الرأس) قبل التراجع عنها لاحقاً بعد أن تركت أثراً عميقاً في الوعي العام، كما أن خضوع الصحفيين المرافقين لجيش الاحتلال الإسرائيلي لرقابة مشددة، تصل إلى مراجعة المواد المصورة قبل نشرها، ما يجعل الرواية أحادية الجانب، كما تعمد الوسائل الإعلامية المنحازة للاحتلال إلى التشكيك في المصادر الفلسطينية، وأعداد الضحايا.
أرقام فاضحة
خلال الفترة بين (2024 – 2025) أجريت دراسات للمفارقات الإعلامية بين ما يتم نقله ونشره وما يتم الترويج له، أو التقليل من واقعيته، على سبيل المثال، انحازت صحيفة مثل “نيويورك تايمز” الأمريكية إلى الاحتلال الإسرائيلي 187 مرة مقابل مرة واحدة لفلسطين.
وتحيزت “بي بي سي” البريطانية للاحتلال 12 مرة مقابل مرة واحدة لفلسطين، أما “لوموند” الفرنسية فقد انحازت للكيان 16مرة ، أيضًا مقابل مرة واحدة للقضية الفلسطينية، وفي صحيفة “ذا غلوب اند ميل” الكندية تحيزت للاحتلال 66 مرة مقابل مرة واحدة لفلسطين.
كانت كلمات مثل “محتلة” و”حصار” و”مستوطنات غير قانونية” غائبة بشكل شبه كلي عن تغطيات وسائل الإعلام الثماني، وهو ما جرّد الصراع من سياقه، بحسب معدي الدراسة، الذين أشاروا إلى أنه من بين 54,449 مقالة جرى تحليلها، لم تستخدم سوى ثلاث عناوين فقط عبارة “مستوطنات غير قانونية” لوصف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، اثنان منها في “ذا غلوب أند ميل” وواحد في “لوموند”.
التأكيد، إن العلاقة بين الإعلام والسياسة الدولية هي علاقة “تغذية مرتدة”؛ فالإعلام لا ينقل الأحداث فحسب، بل يصيغ الشرعية التي يتحرك من خلالها صناع القرار.
الانحياز الإعلامي يؤثر على قرارات السياسة الدولية، فيسهم في التأثير على التدخل العسكري والمساعدات، فعندما يتم تصوير الصراع كمعركة “حضارة ضد إرهاب”، يسهل على الحكومات الغربية تبرير إنفاق مليارات الدولارات من أموال الضرائب على المساعدات العسكرية، وهذا ما قد يُقلل المعارضة الداخلية للدول الداعمة للاحتلال كأمريكا وأوروبا تجاه شحنات الأسلحة، وتبرير تدفقها بأنها تستخدم للدفاع فقط.
ومن خلال تغييب حجم المعاناة الإنسانية في غزة أو تقديمها كـ “أضرار جانبية” حتمية، يمنح الإعلام الغربي الحكومات مساحة زمنية للمناورة السياسية.
من زاوية أخرى يمكن القول أن الإعلام يساهم في التشكيك بنزاهة المؤسسات الدولية مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية عندما تتخذ قرارات ضد الاحتلال، كما أن وصم هذه المؤسسات بـ”الانحياز أو معاداة السامية” في التغطيات الغربية، يُضعف أثر قراراتها ويجعل تجاهلها سياسياً أمراً ممكناً دون دفع ثمن دبلوماسي باهظ.
هذا التأثير الإعلامي المنصب في الصالح الصهيوني، يمتد لملاحقة الساسة الغربيين أو العرب الذين ينتقدون الاحتلال، حيث يتم تصويرهم في البرامج الحوارية كأعداء للقيم الغربية، ما يخلق لديهم حالة من الخوف السياسي، والاغتيال المعنوي في الصحافة الكبرى.