المصدر الأول لاخبار اليمن

“متى هشوفك يا ماما؟”.. قصة طفل فقد بصره أمام بيته المدمر في غزة

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

 

في غزة… حيث لا تنتهي الحرب حتى بعد أن يسكت صوت القذائف، تتسلل بقايا الموت إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتغرس أنيابها في أحلام الأطفال، الوقود الأكبر لضحايا حرب الإبادة النازية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي.

في سرير صغير بغرفةٍ بيضاء داخل المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة، يرقد الطفل محمد حجازي، سبع سنوات، بين الحياة والظلام، تغطي عينيه ضمادتان منذ أسابيع، ، بينما ينتظر – في صمت موجع –  مجيء الطبيب عله يحمل معه خبرًا يُبدّد ظلامه ويأتيه بأمل لا يزال يراوده: أن يرى النور من جديد، وأن يرى أمه، ولعبته الصغيرة، وسماءً لطالما تخيّل لونها الأزرق.

لكن قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي اختارت أن تترك قنبلة خلفها، خبأتها بين ركام منزل محمد المدمر، قررت أن يكون لون الظلام الأسود هو مصيره الأبدي.

انفجار غيّر كل شيء

حين ظن محمد أن القطعة المعدنية لعبة… ففقد بصره إلى الأبد

في يوم الثلاثاء، 25 مارس الماضي، خرج محمد للعب كما يفعل كل يوم.. أمام البيت الذي لم يعد بيتًا، بل جدران محطمة تحيط به الذكريات، راح يركض بين الركام كأنه يطارد الحياة بين الأنقاض.

“وجد قطعة معدنية لامعة قرب الحجارة، بدت له كشيء غريب أو لعبة قديمة”، يقول والده، وهو يتحدث بعينين لا تجفان: “مد يده نحوها، وما إن لمسها، حتى انفجرت الدنيا”.

تطايرت الصرخات مع الغبار

“ركضتُ وأنا أصرخ باسمه… محمد! محمد!”، يضيف الأب: “وجدته ملقى على الأرض، وجهه مغطى بالدم، وعيناه مغلقتان تمامًا.. حملته بين ذراعي، لم أشعر برجلي، فقط أردت أن أصل به إلى أي مكان ينقذه”.

سباق مع الزمن والدموع

من كمال عدوان إلى الإندونيسي فمستشفى العيون.. والنتيجة: فقدان شبه كلي للبصر.

 

في البداية، نُقل محمد إلى مستشفى كمال عدوان، لكن قدرات المستشفى المحدودة لم تكن كافية، فتم تحويله إلى المستشفى الإندونيسي، وهناك قرر الأطباء نقله لاحقًا إلى مستشفى العيون في غزة، علّهم يجدون ما يعيد إليه البصر.

لكن الوقت كان قد تأخر… والقطعة المعدنية التي ظنها لعبة، كانت بقايا جسم متفجر من مخلفات قذيفة صهيونية.

“محمد فقد بصره بشكل شبه كلي”، يقول الطبيب المناوب: “الأمل ضئيل، لكننا نتابع حالته”.

منذ لحظة الإصابة، لم يرَ محمد شيئًا.. العالم عنده توقف بلونٍ داكن، وبصوت أمٍ تبكي قرب سريره كل ليلة.

حين يسأل الطفل: متى هشوفك يا ماما؟

كلمات محمد تحطم قلب والدته وتُسائل ضمير العالم.

كل صباح، تسأله أمه: “كيفك اليوم يا حبيبي؟”.. ويجيبها بصوت خافت: “متى هشوفك يا ماما؟”

تختنق الكلمات في حلق والدته، التي لم تعتد أن تنظر إلى طفلها من خلف الضمادات، بل من وراء ضوء عينيه وضحكته الصغيرة.. الضحكة التي خطفها الانفجار، كما خطف النور من عينيه.

في كل مرة يُزال فيها الشاش مؤقتًا لفحص حالته، تبكي الأم أكثر مما يحتمل قلب أم.. تبكي بصمت، وتهمس: “كان يحب يرسم… كان يرسمني أنا وأبوه، والشمس فوق بيتنا”.

لكن محمد اليوم لا يرسم… محمد يحاول أن يلمس وجه أمه ليتذكر ملامحها، ويطلب منها أن تصف له لون السماء الزرقاء، التي قد لا يراها مرة أخرى.

قتل دون ضجيج

في غزة هناك من يموت نتيجة للقصف المباشر، أو بسبب جسم متفجر لا يزال يتربص صامتا بضحايه.. ومخلفات القصف، من قنابل وشظايا ومواد متفجرة، تنتشر في أزقة غزة كأشباح لا تُرى، لكنها تكمل مهمة القتل الصهيوني دون ضجيج.

العدوان سرق من محمد بصَره، لكنه لم ينل من حلمه البسيط بأن يعود لمدرسته، ويمشي وحده في الطريق، دون أن تمسكه يد أحد.

محمد ليس الضحية الأولى، وقد لا يكون الأخيرة.

أملٌ معلق على عيون لا ترى

في سريره، يغمض محمد عينيه المغطاة، ويهمس من جديد: “بدي أشوف ماما… وألعب مع أصحابي… وبدي أرجع أرسم”.

 

ويضيف: “كنت أحب اللون الأزرق”، قالها الطفل بصوت خافت قبل أن يخلد للنوم. “أريد فقط أن أراه مرة أخرى”.

ورغم كل الظلام الذي يحيط به، لا يزال الطفل يحتفظ بحلم صغير: أن يمنح فرصة العلاج في الخارج ليعود ويرى لون السماء.

باب مغلق في وجه العلاج

لم تكن مأساة محمد فقط في الانفجار الذي أفقده بصره، بل في ما تلاه من عجز عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

“لو سافر محمد للعلاج في الخارج، لربما اختلفت النتيجة”، تقول والدته، وتحاول كتم رجفتها: “الأطباء هنا حاولوا، لكن الإمكانيات محدودة، وغزة محاصرة، والبوابات مغلقة”.

أكثر من 117096 جريح في غزة منذ بداية الحرب، غالبيتهم من الأطفال، حسب الجهاز المركزي الفلسطيني للاحصاء، بعضهم يمكن إنقاذ أطرافهم، أو بصرهم، أو حياتهم كلها، لكن الاحتلال يمنعهم من السفر لتلقي العلاج، والمعابر مغلقة أو خاضعة لقيود مشددة، والعالم لا يرى.. كما يتجاهل العالم العربي والإسلامي أن يرى.

“طلبنا تحويلة طبية إلى مستشفى في الخارج، لكننا لم نتلقَّ أي رد حتى الآن”، يضيف والده بحسرة: “نحن لا نطلب معجزة، فقط نريد لابننا أن يعيش بكرامة، وأن يرى وجه أمه من جديد”.

صوت الصمت الدولي

في غرف العناية والممرات المزدحمة، يعلو صوت الصمت العاجز في مستشفيات قطاع غزة المنكوب.. لا أدوية تكفي، لا معدات متخصصة، لا كهرباء مستقرة، ولا منفذ مفتوح لنقل الجرحى.

الطفل محمد حجازي هو واحد من آلاف الأطفال في غزة الذين يواجهون العجز الطبي والخذلان الإنساني، في وقتٍ يعجز فيه الضمير العالمي والتخاذل العربي والإسلامي عن إرسال حتى علبة دواء أو شحنة أمل.

 

قد يعجبك ايضا