مجزرة ثقبان.. حين تأخر العشاء وجاء الصاروخ بطعم الدم والنار (1)
عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
في مساءٍ بدا للوهلة الأولى عاديًا في حيّ ثقبان بمديرية بني الحارث شمال العاصمة صنعاء، تأخّر العشاء قليلًا في بعض المنازل المستهدفة، كما تتأخر تفاصيل الحياة أحيانًا في الأحياء الشعبية، لم يكن هناك ما ينذر بالكارثة.. لا طائرات تحلق في السماء، ولا صفارات إنذار.. فقط عائلات بسيطة تجتمع حول موائد متواضعة، وبعض الأطفال يحاولون مقاومة النعاس بانتظار لقمة تسدّ جوعهم.. لكن الموت، حين يختبئ في أجنحة الليل، لا يحتاج إلى مؤشرات.. كان قادمًا بهدوء أمريكي قاتل.. في هذا المساء تحديدًا، غيّرت غارة أمريكية حياة ثلاث عائلات إلى الأبد.
البيوت التي صارت مقابر
مجزرة ثقبان جريمة أمريكية مكتملة الأركان استهدفت 3 منازل تاركة خلف كل منزل قصة جريمة تحرق القلوب وتكتب بالدمع والدم، ثلاثة منازل متجاورة.. ثلاث قصص.. وثلاث مآسي لن تمحوها الذاكرة.
في تمام الساعة العاشرة مساءً، دوّى انفجار عنيف.. صواريخ أمريكية الصنع مزّقت سكون الحي، واجتثّت من الأرض بيوتًا كانت قبل لحظات تعجّ بالحياة.. النيران اشتعلت، والأجساد تطايرت، والركام ابتلع أنين الجرحى واستغاثات من لا تزال بهم بقايا روح.
في المنزل الأول، استُشهد المواطن علي مسعود وزوجته، وستة من أطفاله – أربعة بنات وولدان – رحلوا جميعًا في لحظة واحدة، لم يجد الجيران غير الصراخ وسيلة لكسر رعب القصف، لكن الصوت لم يكن أقوى من النيران.. لم يتمكن أحد من إخراجهم قبل أن تلتهمهم النيران، الأطفال الذين ناموا جياعًا على وعد بطبقٍ مؤجل، استيقظوا على موعدٍ مع اللهب والموت.
وفي البيت المجاور، خرج المواطن محمد نشوان الجملولي لجلب العشاء. لم يكن يعلم أن ما سيعود به هو مشهدٌ لا يُنسى: والدته وشقيقه الطفل عمر “11سنة) وقد صارا جثتين تحت الأنقاض.
أما البيت الثالث، فقد احتضن وجعًا آخر: طفل في السادسة عشرة من عمره استُشهد، فيما لا تزال شقيقتاه تصارعان الموت في غرفة العناية المركزة، ترسمان بخيوط الألم ملامح جريمة لا يمكن نسيانها ولا تبريرها.
لم تكن الغارات الأمريكية عادلة يومًا، لكنها في تلك الليلة كانت أكثر قسوة من أي وقت مضى.. 12 شهيدًا، معظمهم أطفال ونساء، وأربعة جرحى، هي حصيلة مجزرة حي ثقبان.. حيّ لا يملك من أسلحة الردع سوى مفارش النوم، وأمنيات الأطفال بطبق عشاء وبنهارٍ لا يحترق.
جريمة أمريكية بلا مواربة
ما حدث في ثقبان ليس “حادثًا عرضيًا”، ولا ضربة “خاطئة” كما تحاول الآلة الإعلامية الغربية أن تصفه.. ما حدث هو جريمة حرب مكتملة الأركان، ارتُكبت بدم بارد، وبسلاح أمريكي موجّه بدقة نحو بيوت آمنة.
لم يكن هناك هدف عسكري، ولا ذريعة أمنية، بل فقط أطفال ينتظرون وجبة العشاء، ونساء في المطبخ، وشباب خرجوا لجلب الخبز.. فعادوا ليجدوا الطاولة فارغة، والبيت رمادًا.
لقد بلغت الوحشية الأمريكية حدّ العبث بالحياة اليومية لعائلات لا تملك شيئًا من الحرب سوى آثارها.. لم تستثني حتى من يغني للمساء ومن يحلم بصبح جميل، لم يعد الأطفال في اليمن يواجهون سوء التغذية والمرض فقط، بل يواجهون طائرات لا تعرف الرحمة، تقصف حتى أحلامهم المؤجلة، وبطونهم الفارغة.
الصمت الذي يقتل
من سمع؟ من بكى؟ من استنكر؟
على المستوى الدولي، في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم تُعقد جلسة طارئة، ولم يُصدر بيانٌ عاجل، ولم تُرفع راية إنذار.. فقط “قلق” اممي بارد في تقارير متأخرة.. العالم يرى، لكنه لا يريد أن يرى.. كأن أطفال اليمن لا يشبهون أطفال هذا العالم.
أما عربيًا، فالخذلان كان أشد وقعًا من الصواريخ نفسها. صمتت العواصم العربية، وتاهت الإدانات بين حسابات السياسة وصفقات السلاح. بعض الحكومات سارعت لتجديد عقود التسليح مع واشنطن، وأخرى اكتفت بمراقبة الجريمة من بعيد، وكأن الأطفال الذين احترقوا في ثقبان لا ينتمون لهذه الأمة.
مجزرة ثقبان ليست مجرد قصة موت.. إنها وثيقة دم، وصوت جرح، وصورة أخرى للعالم حين يغمض عينيه عن الحقيقة.. لكنها أيضًا تذكرة للعالم أن اليمن، رغم الألم، ما زال يكتب الحقيقة بحبرٍ من دماء أطفاله.