تحليل/د.ميخائيل عوض/وكالة الصحافة اليمنية/م
في ١٠٠ يوم زعم ترمب أنه أعاد صياغة أمريكا، وأَعدَّها لتعود، ويتحقق حلمه. مؤكداً أنه أصدر أكبر عدد من القرارات، وجُلُّها غيَّرت وستغير أمريكا.
أثار عواصف اقتصادية، وألقى صخوراً في بحار العولمة الآسنة، فأربك الجميع. وأطلق حقبة “اللايقين” والتحسب لمخاطر وتطورات قد تصير مدمرة في أمريكا والنظام العالمي. وليس مستغرباً احتمال انهيار النظام الاقتصادي الانجلو ساكسوني، الذي ساد وحكم العالم أربعة قرون، وتركزت فاعلياته بيد وإدارة لوبي العولمة وحكومة الشركات في أمريكا، وساد تحت مسمى العولمة وكشف عن توحشه وليبراليته المدمرة.
حكومة الشركات الشائخة قاتلت وستقاتل بكل جوارحها وبما تملك، ولن ترفع راية بيضاء ولا تستسلم، شأن القديم في حربه على الجديد.
ترمب ليس جديداً بالمعنى الحرفي، فهو يقود تياراً وكتلةً من الدولة العميقة، ساعٍ إلى التجديد لمصادرة خطر الموت السريري والانهيار الدراماتيكي البادية عناصره للعيان، وعند الباحثين منذ سنوات.
ترمب أخذ حكومة الشركات على حين غرة بالانتخابات، ولأسباب من خارج السياق لم يدركها الكثيرون إذ لم يلفتهم الحراك الشبابي والطلابي نصرة لغزة، ورفضاً لعولمة الإبادة والتدمير والمجازر. فجاءت النتائج في الصناديق لصالح ترمب بسبب خسارة الحزب الديمقراطي لـ١٢ مليون صوت هي تياره الشبابي واليساري، والتي لم تذهب لترمب الذي لم يزيد سوى ٢٠٠ ألف صوت عن نتائج الـ٢٠٢٠.
في زمن الذهول، وتحت وقع المفاجآت غير المحسوبة، سارع لوبي العولمة لتجميع وتفعيل قواه العالمية. فحرك ماكرون وإردوغان ونتنياهو وتوابعهم، وحاول فرض وقائع وأجندات تلزم ترمب، وتقيد مخططاته بل تفشلها تمهيداً للانقضاض عليه في أمريكا نفسها.
بذكائه الفطري أثار ترمب العواصف، وألقى قنابله الدخانية والصوتية بكل الاتجاهات، وأطلق عفاريت الأزمات كلها، وأشغل الكل بحروبه الاقتصادية وضرائبه الجمركية، وبإعلاناته عن كندا وغرينلاند وغزة.
في واقع الحال أطلق يد ماسك في الدولة العميقة والحكومة الاتحادية، ونجح بإعادة هيكلتها وترشيقها، وشطب كتلة وازنة من بيروقراطيتها وفسادها، وقلص نفوذ الديمقراطي باعتباره واجهة لوبي لعولمة وحكومة الشركات العالمية الخفية.
أربك لوبي العولمة، وحرمه من فرص تجميع قواه واستخدامها للإعاقة في أمريكا، وفشلت جهود سوروس بتنظيم ثورة ملونة. وانتزع ترمب موافقات متسرعة على إدارته، بما فيها الأسماء والشخصيات الغارقة بالارتكابات والمتهمة بالملفات والقصور. ففرض مشيئته وفريقه دون تأخير تأكيداً لعزمه، وروحه المحاربة وغير المساومة.
حاول جاهداً وضع وعوده في وقف الحروب، وإنهاء حرب غزة وحرب أوكرانيا، ومصالحة إيران، والتحالف مع بوتين موضع التطبيق الفوري. فاصطدم بصخور كأداء، وظهرت عليه علامات الاخفاق والوهن، بل وأحيانا الاستسلام.
أمريكا بطبيعتها ونظامها ودولتها “معولمة” من النشأة والتكوين. وقد بُنيت كدولة ٍونظامٍ لخدمة الشركات، وتأمين مصالحها، وعليه فتوازناتها الداخلية غير منقطعة عن موازين القوى في الخارج. وحيث أخفق لوبي العولمة حتى الآن في المواجهة في داخل أمريكا، فإنه لا زال يملك أدوات ومنصات وعناصر قوة حاكمة في الخارج، وقد عززها في الزمن القاتل بين نتائج الصناديق ووصول ترمب للبيت الأبيض.
إِثرَ عجزه في تنظيم ثورة ملونة، وإعاقة ترمب في المؤسسات والدولة الاتحادية، نظَّم جهده وبدأ حربه في الملفات الخارجية، ونجح في تعطيل خطط ترمب، بل يبدو أنه هزمه. وإن ثبتت هزيمته فسيكون لها ارتدادات داخل أمريكا وتوازناتها.
خرج نتنياهو عن طوع ترمب، وعاد لحرب تدمير واحتلال غزة، ويضرب بعرض الحائط بخطط ومشاريع ترمب، بل يستهزأ وينكل به.
تحالف مستشار الأمن القومي والبنتاغون ونتن ياهو عطل المفاوضات مع إيران. وألزم ترمب بالتورط في حرب عبثية لا نتيجة لها إلا هزيمة البنتاغون، والعسكرية الأمريكية في اليمن. ومازالت الورطة قائمه منذ سبع أسابيع بلا نتيجة، بل بنتائج عكسية ستنعكس على مصداقية البنتاغون ولوبي صناعة الحروب. وإذا تبناها ترمب قد تجعله بطة عرجاء في البيت الأبيض.
في أوكرانيا أظهر لوبي صناعة الحرب ترمب شخصية كاريكاتورية لا تلوي على شيء، بل اليد العليا فيها لماكرون زيلنسكي والبريطانيين. وزاد في الصورة ذكاء بوتين وصبره، وإدارته المحترفة لحرب أوكرانيا، والأكثر أهمية الاستثمار في صراعات لوبيات أمريكا، فلم يقدم لترمب أية تنازلات تقويه في وجه أعدائه، ولا أظهر أية مؤشرات للتخلي عن إيران، أو لتقليص التحالف الاستراتيجي مع الصين، والتفاهمات العميقة مع السعودية ومصر، بل وأعطى إردوغان الضلع الثالث لأدوات لوبي العولمة فرصه كاملة في سورية.
في جردة حساب يمكن القول؛ أنَّ ترمب حقق إنجازات اصبحت وقائع مادية صلبة في أمريكا وغيَّر توازناتها. وإلى حد ما يبدو أنه تمكن وفرض أجنداته وأولوياته، وحصد تريليونات الدولارات، وتسبب بخسائر الشركات ولوبي العولمة عشرات التريليونات، وهزَّ مكانتها في الاقتصاد والبورصات والسندات والعالم الافتراضي، وقلَّص نفوذها ومرتكزاتها في الدولة الاتحادية. مكاسبٌ تحصنه في أية مواجهات قادمة ومتوقعة، وزاد أن فرض أجندة استعادة السيطرة على قناة بنما، ووضع ضم كندا وغرينلاند على جدول الأعمال لثرواتهما، وتكبير وإعادة هيكلة جغرافية أمريكا إذا اضطر اليها.
في حروب لوبي العولمة ولوبي الأمركة الترامبي في الخارج تسير الأمور على حبالٍ مشدودة، ليس محسوماً لمن يكتب النصر.
في الظاهر الموازين تبدو لصالح لوبي العولمة وأدواته، في الجاري والتحولات وما قد يبطنه ترمب ستحسم لصالحه.
اخفاقات تحالف “نتنياهو- البنتاغون” في اليمن وغزة المؤكدة، تعطي ترمب فرصة البطش بهم، والتخلص من قدراتهم ودورهم المعيق والمتكامل مع لوبي العولمة. والمؤشرات واضحة فقد بطش بحليف نتنياهو وأقال مستشار الامن القومي لأسباب معلنة تحالفه مع نتنياهو وموقفه من إيران، ما وتَّر الأخير وجعله يطلق تصريحات عدوانية ضد ترمب. وفي إعلان وزير الدفاع الأمريكي عزمه تخفيض الضباط من رتبة ٥ نجوم بنسبة ٢٠%، مؤشر هام، كما في إعلانه تخفيض الرتب في الجيش بمختلف مستوياتها بين١٠ و٢٠% بذريعة تخفيض التكاليف، وتكييف الجيش مع مشروعات استعادة أمريكا.
وكان ترمب أقال في شباط قائد الأركان، وعزل عدداً من كبار الضباط” ضربة كاسرة لبيروقراطية البنتاغون. وقد سبقها بضربات لبيروقراطية وزارة الخارجية، وشطب ذراع العولمة العالمي. وكالة التنمية، وأوقف المساعدات الخارجية”. إذاً هو عارف بالعقد ومكامنها وعازم على تصفيتها.
إخفاق “نتنياهو- البنتاغون” في اليمن وغزة، ستكون ذريعته لتوجيه ضربات كاسرة لهم، وبهدف إفقاد لوبي العولمة لقواعده ومنصاته وحلفائه الأقوياء.
والمنطقي أنَّ الدور آت على الإخوان المسلمين، وقد بدأت النذر في الأردن، ولن ينجو إردوغان من أفعاله مهما ناور، ومهما قال عنه ترمب ونتنياهو.
العالم في فوضى وظروف التغيرات الحدية ناضجة، وأمريكا في حرب عالمية بين لوبياتها ومسارحها كل شيء وكل الاتجاهات والساحات.
يربح ترمب في مسارح ويعجز حتى الآن في أخرى، إلا أنَّ ميزان القوى الكلي والبيئات، كما الضرورات والحاجات تعمل لصالحه.
لم يفت الأوان بعد، ولم تنتهي الحروب ليتقرر المنتصر والمهزوم.
إنَّ ترك نتنياهو على غاربه ليختبر أوهامه، وإعطاء البنتاغون فرصته ليتقرر حجمه وقدراته، وتعليق المفاوضات مع إيران، وترك ماكرون وزيلنسكي يختبرون قدراتهم، بقدر ما فيها من مؤشرات عن احتمال عجز وخسارة لترمب فيها أيضا مؤشرات عن فطنة وذكاء وإدارة صحيحة للحروب، ومقاصد لاختبار التوازنات، لتوفير فرصة الانقضاض والتخلص من العقبات.
لا نستعجل الحسم ونتابع الجاري، فأمريكا نفسها ليست عصية على التأزم، واحتمالات انفجار أزماتها، وانشغالها عن أدواتها وهيمنتها العالمية المتعجرفة، فالفرص وافرة للشعوب والأمم أن تنهض، وتستعيد مكانتها ودورها.
صحافي ومحلل سياسي لبناني