عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
غزة المدينة التي تبحث عن الفرح وسط حياة الحزن، لا تُروى الحكايات فيها كما كُتبت، كل قصص الفرح مهددة بالقصف، كل ضحكة تقف على حافة ألم، وفيها لا يُزفّ العرسان دومًا إلى القاعات.. بعضهم يُزفّ إلى الجنان.
كانت الأم تعدّ الأيام والساعات.. بعد ساعات قليلة فقط، كانت ستفرح بابنها البكر، تترقب بفارغ الصبر تلك اللحظة التي ستغني له، تزفه إلى عروسه بثوب الفرح الأبيض.. لكن في غزة، لا يُمهل الفرح طويلًا.
بداية النهاية
في صباح 19 أبريل الماضي، خرج أبناؤها الثلاثة معًا.. قصدوا محل الحلاقة القريب، يحملون بين ضحكاتهم همسًا خجولًا عن ليلة العمر، كان اثنان من الإخوة يرافقان العريس ليجهزوه، كعادة العائلات التي تعرف أن الفرح يجب أن يُتقاسم.
في داخل محل الحلاقة، كان كل شيء يبدو عاديًا.. مقصات تقص خصلات الشعر، عطور خفيفة تعبق في الجو، ضحكات مختلطة بتوتر جميل، كانوا يحلمون، ولم يكن بينهم وبين حلمهم سوى لحظات.. لكن في غزة، لا يُمهل الحلم طويلًا.
في لحظة واحدة، انقلبت أفراح عائلة الغزاوي إلى مأتم، بعدما استهدفت غارة إسرائيلية محل حلاقة كان يتحضّر فيه ثلاثة من أبناء العائلة لعرس شقيقهم المرتقب.. دوّى صوت الصاروخ كوحشٍ جائع، سقط كل شيء.. الجدران، المرايا، الأحلام، وأبناء الأم الثلاثة سقطوا جميعًا شهداء وسط المقصات والأمشاط وروائح العطور.
ركض الناس نحو المحل.. أنقاض مبعثرة، دماء تختلط برائحة البارود والعطر والشعر المحروق، وفي وسط الفوضى، جاءت الأم تركض.. وفي كل خطوة صرخت، ولم تجد سوى أن تهتف نحو السماء: “بعثتلك ثلاثة يا الله!”.. كانت كلماتها خليطًا من الرجاء والانكسار والتسليم.. كانت تزغرد وهي تبكي، تزغرد كما لو أنها تقاوم الانهيار بأن تمنح أبناءها وداعًا يليق بالشهداء.
بجانب الركام، تبحث الأم المفجوعة عن أبنائها، تنبش بين الحجارة والغبار بيديها العاريتين، بقلبها المثقوب، بعينيها المطفأتين، وفي لحظة وقفت.. لم تعد تحتمل الصمت ولا الألم، تُزغرد وهي تبكي.. مزيج عجيب من الفقدان والتسليم، من الحب والحسرة، من الإيمان والوجع.
ظلت تزغرد.. وكأنها تحاول أن تخترق السماء بندائها، وكأنها تقول لله: “خذهم… لقد بعثتهم لك، مكفنين، أنقياء كما ولدتهم.”
في تلك اللحظة، لم يكن هناك من يقدر أن يواسيها.. كل من شاهدها بكى، وانكسر، وصمت.
وهكذا.. في غزة، لا تكتمل الحكايات كما كُتبت، كل أمّ تخشى أن تفرح كثيرًا.. أن تزف أبناءها لا إلى أعراس الدنيا، بل إلى أعراس الجنة، كل عرس فيها مهدد بأن يتحول إلى مأتم.. كل زغرودة قد تحمل في طياتها نواحًا مؤجلًا.