عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
كانت الدكتورة آلاء النجار، أخصائية طب الأطفال في مستشفى ناصر، تمسك حقيبتها الطبية في صباحٍ لم يشبه سواه، تاركة خلفها 10 أطفال بين جدران منزلها في خان يونس، لا يتجاوز أكبرهم الثانية عشرة.. دقائق فقط من وصولها للمستشفى، حتى سقط صاروخ إسرائيلي على منزلهم، الذي يعج بالحياة، بالضحكات المتشابكة، بالصراخ الطفولي المألوف في بيوت غزة التي تُجيد الحب رغم جرائم الإبادة الجماعية والحصار.
تسعة أكفان.. وطفل وحيد ينجو
بعد أن أوصلها زوجها الدكتور حمدي النجار بسيارته إلى المستشفى، كما يفعل كل يوم، عاد إلى البيت مسرعاً، وهناك.. في لحظة لم تستغرق سوى نفسٍ واحد، هوى صاروخ إسرائيلي على البيت، اختفى البيت.. اختفت الجدران.. احترق كل شيء.. حتى الأطفال.
استشهد تسعة من أطفالها في القصف: يحيى، ركان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، سيدين، لقمان، وسيدرا.. كانوا جميعًا هناك، بين أكفان صغيرة ودماء متخثرة.. لم يتبقَ إلا آدم، الطفل العاشر، جريحًا يصارع الموت، يرقد في العناية المركزة بجوار أبيه، الذي أصيب في الغارة نفسها.
كانت تنقذ الأطفال.. لتستقبل أطفالها شهداء
لم يكن أحد يملك الجرأة ليخبر الدكتورة آلاء بالكارثة.. وحدها رائحة الحريق التي تسللت إلى المشفى، وأصوات سيارات الإسعاف، وأقدام الأطباء المتسارعة نحو الطوارئ.. كانت كافية لتزرع الرعب في صدرها.
وما هي إلا دقائق حتى بدأت تصل جثث أطفالها.. أشلاء محترقة، ضفائر مشتعلة، ألعاب ممزقة، بقايا نعال صغيرة.. وجوه فقدت ملامحها، تسعة توابيت صغيرة، واحد تلو الآخر.. تسعة أبناء من لحمها ودمها، من ضحكاتها وتعبها وسهرها الطويل، جاءوا إليها في مركبة الإسعاف، لا لتُسعفهم، بل لتُودّعهم.
في لحظة واحدة، لم تعد الدكتورة آلاء مجرد طبيبة تُنقذ حياة الأطفال.. بل أمًا تحتضن جثامين فلذات كبدها في ممرات المستشفى ذاته، هناك.. بين أروقة الطوارئ والبرد المعدني للمشارح، ودّعتهم بصمتٍ ثقيل لا تتسع له الكلمات.
تقول الدكتورة بصوت متهدّج: “كان عندي 10 أطفال، لم ينجُ منهم إلا آدم، استهدفهم صاروخ الاحتلال بينما كنت أعمل في المشفى.. كل شيء احترق.”
ما حدث للطبيبة آلاء يحدث كل يوم لعشرات الأمهات، في غزة.. الأم لا تختار أن تكون فقط منبع الحنان، بل قد تُجبَر أن تكون المُغسّلة، والمودعة، والمُشيّعة.
طبيبة مفجوعة.. وكوادر طبية تذبح بصمت
وقفت آلاء قربهم، لا تصرخ.. لا تبكي، كأن صوتها تاه تحت تأثير الصدمة.. احتضنت بعض الأكفان، ثم جلست على الأرض، تشهق في صمت.. لا لغة في ذلك المشهد إلا الدموع الصامتة والرائحة الثقيلة للموت.
ليست مأساة الطبيبة آلاء النجار حالة فردية، بل عنوان لمجزرة متواصلة تستهدف الكادر الطبي وعائلاتهم، كما تستهدف المدارس والمنازل والملاجئ.
في قطاع غزة لم يعد الأطباء محصنين ولا أولادهم في مأمن، الكوادر الطبية يعملون في ظروف مستحيلة، يضمدون الجراح وهم ينزفون داخليًا، ينتشلون أطفال الناس من الموت فيما يُقتَل أطفالهم في منازلهم.
منظمة الصحة العالمية صامتة.. لجان حقوق الإنسان تُصدر بيانات خجولة.. العالم ينظر من بعيد، كأن الأطفال المحترقين في حضن أمهاتهم مجرد مشهد سينمائي مؤلم.. لا أكثر.
في كل زاوية من القطاع المحاصر، حكاية مشابهة.. وفي ظل عجز المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية، يستمر الاحتلال في التنكيل، مطمئنًا لصمتٍ عالميٍ يُشبه التواطؤ.
الأرقام لا تعود مجرد إحصاءات
مجزرة أطفال الدكتورة آلاء تُمثّل وجع غزة المكثف، بعد استشهادهم، لم تعد الأرقام ذات معنى.. تجاوز عدد الأطفال الشهداء في غزة حاجز 18 ألفًا، أسماء وأحلام وأصوات ضاعت تحت الأنقاض، وجوه كانت تملأ الشوارع والمدارس والبيوت، صارت أرقامًا في تقارير لا يقرؤها العالم.
هؤلاء ليسوا مجرد أرقام لضحايا فقط.. كانوا حياة ملائكة تمشي، وأملًا يكبر، وأحلامًا بحجم السماء وعدد الكواكب والنجوم، واليوم.. باتوا شاهداً على جرائم نازية تُرتكب أمام أنظار العالم، وسط صمت دولي مخزٍ، وعجز أممي لا يليق بشيء سوى العار.
غزة تنزف ولا أحد يسمع