لم تكن دموع الطفل الفلسطيني عبد الله أبو زرقة (5 سنوات) – وهو يصرخ مستغيثًا – مجرد لحظة عابرة أمام الكاميرا، بل كانت صرخة جوع تجسد صوت أمة كاملة، ببراءة موجعة رفع رأسه وقال والعبرة تخنقه: “أنا جعان”، انتشر المقطع كالنار في الهشيم، وأبكى الملايين حول العالم، وأخرجه مؤقتًا إلى العلاج في تركيا، لكنه لم ينجُ من موت بطيء بسبب الجوع.
رحل عبد الله، بعد صراع طويل مع مرض سوء التغذية ونقص الدواء بسبب الحصار الإسرائيلي على غزة، تاركًا خلفه صرخة تتردّد في ضمير كل إنسان، وأختًا صغيرة “حبيبة” تصارع نفس الوجع.
لم يكن عبد الله وحده، رحل ليلحق بآلاف الجوعى الصغار الذين لم يعرفوا من الدنيا سوى الخوف والدمار والخذلان. رحل، فيما الحزن يخيم على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تحوّلت صورته وصرخته إلى أيقونة عالمية تُلخّص مأساة الطفولة في غزة.
لكن السؤال الذي يطعن في القلب: بأي ذنب عاش الألم والبكاء، وبأي ذنب رحل؟
المجاعة تفتك بالأطفال
المأساة أكبر من قصة طفل واحد، فالأرقام القادمة من غزة صادمة وتكشف عن كارثة إنسانية مكتملة الأركان، إذ قتلت المجاعة في الآونة الأخيرة نحو 235 من أبناء غزة، من بينهم 106 أطفال، فيما لا يزال أكثر من 40 ألف رضيع يعانون من سوء تغذية حاد، وأكثر من 100 ألف طفل ومريض بلا غذاء أو دواء.
تقارير رسمية وحقوقية تؤكد أن الاحتلال “الإسرائيلي” يتعمّد هندسة التجويع، عبر منع دخول مئات الأصناف الأساسية من الغذاء، من اللحوم والأسماك وحتى حليب الأطفال، إنها سياسة قتل بطيء، تستهدف شعبًا محاصرًا قوامه 2.4 مليون إنسان، نصفهم من الأطفال.
وتشير تقارير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ومؤسسات حقوقية إلى أن الاحتلال “الإسرائيلي” يتعمّد تجويع أكثر من 100 ألف طفل ومريض عبر منع إدخال مئات الأصناف الغذائية الأساسية، من اللحوم والأسماك وحتى حليب الأطفال، في سياسة ممنهجة وموثقة دولياً بوصفها “هندسة تجويع” تهدف للقتل البطيء.
صور أجساد الأطفال الهزيلة ووداع الرضّع المأساوي تُوثّق يوميًا بالصوت والصورة، شاهدة على واحدة من أبشع الجرائم في العصر الحديث.
بين التواطؤ الدولي وصمت الأمة
صرخة عبد الله هزّت وجدان البشرية، لكن العالم اختار الصمت، فالقوى الكبرى، التي تزعم حماية “حقوق الإنسان”، منحت الاحتلال الغطاء السياسي والعسكري والمالي لمواصلة جريمة الإبادة الجماعية وحرب التجويع بحق غزة.
أما العرب والمسلمون، فخيانتهم أكبر من الصمت، فمن معابر أُغلقت بوجه الغذاء والدواء، إلى صفقات النفط والسلاح والمال التي تدفقت لدعم الاحتلال بعوامل القوة، وصولاً إلى جسور إمداد مفتوحة للعدو بينما تُركت غزة تموت جوعًا، شواهد يومية على الموقف العربي والإسلامي المخزي.
رحل عبد الله، لكنه ترك خلفه شهادة حيّة تُدين الجميع، الاحتلال الذي اغتاله ببطء، والأنظمة التي حاصرته بالصمت والتواطؤ، وأمة المليار مسلم التي عجزت عن إنقاذ دمعة طفل جائع.
صرخة لم تمت