أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بكلماته الصريحة، أن “الولايات المتحدة خسرت الهند وروسيا لصالح الصين”. التصريح جاء إقراراً ضمنياً بالهزيمة، واعترافاً بأن السياسات الأمريكية أدت إلى “خسارة مبينة”. إنها نقطة تحول، تؤكد أن الأحادية القطبية، التي كانت واشنطن تسعى للحفاظ عليها، قد أصبحت مجرد ذكرى. إن ما يحدث اليوم هو نتيجة تراكمية لقرارات خاطئة لم تفلح في كبح جماح المنافسين، بل أسست لتحالفات جديدة ضد واشنطن.
محاولات الولايات المتحدة للحفاظ على سيطرتها أدت إلى تسريع أفولها. فبدلاً من إبقاء حلفائها في فلكها، دفعتهم سياساتها الصارمة – مثل العقوبات والقيود التجارية – إلى التحرر من التبعية. كل هذا لم يكن سوى جزء من تحول استراتيجي أوسع نطاقاً، تسعى فيه الدول إلى تحقيق استقلالية حقيقية في سياستها الخارجية والاقتصادية.
الطلاق الاستراتيجي
أفول الهيمنة الأمريكية لم يكن صنيعة القوى الصاعدة في الشرق وحدها، بقدر ما أنه نتاج مباشر لأخطاء واشنطن الاستراتيجية. فقد تسببت السياسات الأمريكية نفسها في تفكك تحالفاتها، ودفع شركاءها إلى أحضان منافسيها.
تدهورت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا بشكل كبير، خاصة بعد دعم واشنطن لأوكرانيا وفرضها عقوبات واسعة على موسكو. هذه السياسات العدائية لم تنجح في إضعاف روسيا، بقدر ما دفعتها نحو شراكة استراتيجية عميقة مع بكين. وقد تجسد هذا التقارب في تعميق العلاقات العسكرية والاقتصادية بين البلدين، حيث أجرى الجيشان الروسي والصيني تدريبات عسكرية مشتركة بشكل منتظم، مثل مناورات “التعاون البحري 2025” في بحر اليابان. هذه المناورات تحمل رسالة ردع واضحة للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بأن الشراكة بين البلدين عميقة وتتجاوز الجانب الاقتصادي.
على الصعيد الاقتصادي، تعمقت الروابط بين البلدين بشكل لافت، لا سيما في قطاع الطاقة. وقد توصل البلدان إلى اتفاق لبناء خط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا 2” عبر منغوليا، والذي من شأنه أن يعزز إمدادات الطاقة الروسية إلى الصين، ويحول مبيعات الطاقة الروسية بعيداً عن أوروبا إلى آسيا.
الأمر نفسه ينطبق على الهند، التي كانت تعتبر حليفاً رئيسياً للغرب. ففي أعقاب الصراع في أوكرانيا، واصلت نيودلهي شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة لتأمين احتياجاتها الطاقية. رداً على ذلك، فرضت إدارة ترامب تعريفة جمركية إضافية بنسبة 50% على البضائع الهندية، متهمة إياها بتمويل الحرب الروسية.
أدى هذا الضغط إلى شعور الهند بأنها مجرد أداة في يد الغرب، وأن مصالحها الوطنية لا تؤخذ في الاعتبار. وقد دافعت نيودلهي عن موقفها بالقول إن وارداتها من النفط تقوم على عوامل السوق وتهدف إلى ضمان أمن الطاقة لـ 1.4 مليار نسمة. هذا التناقض في المعايير زاد من قناعة الهند بضرورة رسم مسارها الخاص في عالم متغير، مما أكد مبدأ “الاستقلالية الاستراتيجية” في الهند.
هذا المبدأ لم يكن حياداً سلبياً، وإنما استراتيجية نشطة تتيح للهند إقامة علاقات مع كل القوى الكبرى مع الحفاظ على سيادتها واستقلاليتها. وقد أكد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أن العلاقات بين الهند والصين “لا ينبغي أن تُرى من منظور بلد ثالث”. كان هذا التصريح بمثابة رفض علني لسياسات الولايات المتحدة التي تسعى إلى استخدام الهند كقوة موازنة ضد الصين.
استعراض القوة الصينية
العرض العسكري الضخم الذي أقامته الصين في سبتمبر 2025 بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار على اليابان، كان بمثابة إعلان صريح عن أفول الهيمنة الأمريكية. لم يكن هذا العرض مجرد احتفال، بل كان إشارة للعالم أجمع بأن الصين لم تعد مجرد دولة مقلدة، بل قوة عسكرية عالمية. وللمرة الأولى، استعرضت الصين “ثلاثيتها النووية” الكاملة: صواريخ نووية تُطلق من البر والبحر والجو. هذه الخطوة لم تكن رمزية، بل كانت علامة على أن الصين باتت تملك قدرة ردع نووي موثوقة يمكنها من خلالها استهداف أي مكان على وجه الأرض.
ولم يقتصر العرض على الأسلحة النووية. فقد شمل أيضاً أسلحة تقليدية متقدمة، مثل الصواريخ الفرط صوتية (DF-17 و DF-26D). إن المغزى الاستراتيجي لهذه الأسلحة يتجاوز القوة النارية. فالنظام الصيني يتبنى عقيدة “النصر بلا قتال”، وهي استراتيجية تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية ونفسية دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة. إن رسالة العرض كانت واضحة للولايات المتحدة: “إذا كنتم تمثلون الماضي، فنحن الحاضر والمستقبل”.
حضور أكثر من عشرين من قادة العالم، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، أضفى على العرض طابعاً سياسياً عميقاً. لقد كان تجمعاً للزعماء الذين يتشاركون رؤية متعددة الأقطاب، مما أكد على أن بكين أصبحت بالفعل مركزاً لجاذبية جيوسياسية جديدة.
الثقل الاقتصادي البديل
بالتوازي مع القوة العسكرية، يعمل الشرق على بناء هيكل اقتصادي بديل. وقد أظهر توسع مجموعة “بريكس+” مؤخراً، بانضمام دول مثل مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، تحولاً جذرياً في التوازن الاقتصادي العالمي، لاسيما وقد تجاوزت مجموعة “بريكس+” بالفعل مجموعة السبع من حيث الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية. هذا الثقل مدعوم بهياكل مؤسسية جديدة مصممة خصيصاً لمواجهة النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. إن بنك التنمية الجديد يوفر للمشروعات التنموية بديلاً للتمويل الغربي، في حين أن مبادرات مثل “بريكس باي” (BRICS Pay) تهدف إلى “إنهاء الهيمنة الدولارية” وتسهيل التجارة بالعملات المحلية. إن الهدف من هذه الخطوة هو تقويض فعالية العقوبات الغربية، التي تعد حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية.
نهاية الهيمنة
من المهم التأكيد على أن أفول الهيمنة الأمريكية لا يعني نهاية وجود الولايات المتحدة كدولة قوية. فكما أن بريطانيا وفرنسا ما زالتا قائمتين كدول ذات نفوذ بعد أفول إمبراطورياتهما، فإن الولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى ذات تأثير هائل. لكن ما سيتلاشى هو قدرتها على فرض إرادتها على العالم بشكل أحادي، أو ما يصفه البعض بـ”الغطرسة الأحادية”.
كانت الولايات المتحدة تتبنى “استراتيجية الأحادية القطبية” بعد الحرب الباردة، والتي تقوم على فكرة الحفاظ على تفوقها الذي لا ينازع. هذه الاستراتيجية هي التي أدت بشكل غير مقصود إلى تشكيل تحالفات مضادة. إن محاولات الولايات المتحدة للحفاظ على نظام عالمي أحادي القطب، مدعوم بقواعد تضعها هي، قد واجهت تحدياً من القوى الصاعدة التي تدعو إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب وله “مراكز قوى متعددة”.
ما يراه العالم اليوم هو ولادة حقبة جديدة. فمع التطور التكنولوجي والاقتصادي، وضعت الصين أسس هيمنة اقتصادية قادمة. وفي الوقت نفسه، أكدت الصين وروسيا قدرتهما على الدفاع عن مصالحهما المشتركة، وعملتا على خلق هياكل عسكرية واقتصادية موازية. هذا التحول نحو تعدد الأقطاب لا يمثل بالضرورة تهديداً للاستقرار، بل قد يكون مصدرًا له. فوجود أكثر من قطب في العالم يخلق توازناً طبيعياً للقوى، ويحد من قدرة أي قوة على ممارسة الغطرسة، مما يصب في النهاية في مصلحة الجميع.