المصدر الأول لاخبار اليمن

من أوهام “النصر الشامل” إلى التحول الديموغرافي: كواليس انهيار أهداف جيش الاحتلال

تقرير | وكالة الصحافة اليمنية

 

في غزة، حيث كان من المفترض أن تكون عقيدة جيش الاحتلال الإسرائيلي القائمة على الردع والانتصار السريع هي السائدة، انقلبت الموازين رأساً على عقب. فبينما يصر قادة الاحتلال على أن القضاء على المقاومة بات وشيكاً، تظل الوقائع الميدانية تروي قصة مختلفة تماماً. وبينما كان الاحتلال يعلن عن “تطهير” حي الشجاعية، فاجأته المقاومة في الأسبوع الماضي بتنفيذ عمليات نوعية أسفرت عن تدمير عدة آليات ومقتل عدد من الجنود، مما كشف هشاشة هذا “الانتصار”.

 

تحول ديموغرافي

في تطور يكشف عن عمق المأزق الذي تواجهه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تشير التحليلات إلى تحول استراتيجي في نهج جيش الاحتلال، من السعي لتحقيق “الانتصار الحاسم” الذي طالما روّجت له قيادته العسكرية والسياسية، إلى تبني مخططات التهجير والتطهير العرقي. هذا التحول لا يمثل فقط تغييرًا في التكتيكات، بل هو اعتراف ضمني بالفشل الاستراتيجي في تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة، وفي مقدمتها القضاء على المقاومة.

فبعد شهور من العدوان المتواصل، وما نتج عنه من دمار هائل وخسائر بشرية فادحة، لم تتمكن قوات الاحتلال من كسر إرادة المقاومة، مما دفعها إلى اللجوء لمخططات تهدف إلى تغيير الواقع الديموغرافي على الأرض. وبحسب تقارير حقوقية، فإن أوامر التهجير القسري التي فرضتها سلطات الاحتلال على سكان قطاع غزة، وإجبارهم على النزوح إلى مناطق محددة، ما هي إلا غطاء لإخفاء حقيقة الإخفاق في الميدان.

إن هذا التحول من استراتيجية “النصر الساحق” إلى سياسة “التطهير العرقي” يعكس حالة من الإفلاس والفشل الاستراتيجي الذي وصل إليه جيش الاحتلال. فبدلاً من تحقيق “إنجاز” عسكري، لجأ إلى استهداف المدنيين وتغيير التركيبة السكانية، في محاولة يائسة للتمويه على عجزه عن مواجهة المقاومة. هذا النهج يمثل اعترافًا بأن أوهام “الانتصار” كانت مجرد سراب، وأن الاستراتيجية الوحيدة المتبقية هي تلك التي تستهدف المدنيين وتهدف إلى إعادة رسم خريطة القطاع بالقوة، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية.

 

تكتيكات الأشباح: قوة المقاومة الخفية

هذا التكتيك المتجدد للمقاومة حول الحملة العسكرية إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، مما دفع خبراء عسكريين إسرائيليين للاعتراف بأن الأهداف المعلنة لحكومة الحرب أصبحت “غير واقعية ومتضاربة”، وأنهم عالقون في “حلقة مفرغة” من القتال، ولاسيما تلك التي تجبر قوات الاحتلال على العودة إلى نفس المربع مراراً وتكراراً، مما حول الحرب إلى “معركة استنزاف طويلة الأمد”، تتناقض مع عقيدته الأساسية القائمة على الحسم السريع.

خلال عامين من المواجهة، برزت القوة الكامنة لحركة المقاومة، والتي لا ترتكز على التفوق العسكري التقليدي، بل في مجموعة من المزايا غير المتكافئة التي تتكامل لتشكل قوة استراتيجية يصعب مواجهتها. هذه المزايا تتجاوز مجرد التكتيكات العسكرية لتشمل الجانب الأيديولوجي، والهندسي، والقدرة على التكيف. إذ تعتمد قوة المقاومة على عقيدة قتالية متجذرة في مفهوم الصبر، وهو ما أكده المستشرق الإسرائيلي كيدار، مشيراً إلى أن مقاتلي المقاومة يعيشون من أجل قضية سامية، وهذا يمنحهم قدرة استثنائية على التحمل. يضرب كيدار مثلاً بالقدرة على البقاء “في نفق لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر، دون رؤية ضوء النهار، وبالكاد يجدون طعامهم”. هذا المستوى من الصمود الأيديولوجي يترجم مباشرةً إلى قدرة تكتيكية على التحمل، حيث يظل المقاتلون قادرين على الخروج بعد فترات طويلة من الحرمان لخوض الاشتباك.

وفي خضم العدوان المستمر على قطاع غزة، يبرز صمود المقاومة وقدرتها على البعث من تحت الركام كحقيقة لا يمكن إنكارها، رغم الترسانة العسكرية الهائلة التي استخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي. لم يكن هذا الصمود محض ثبات، بل هو نتاج قدرات استراتيجية وتكتيكية غير مسبوقة، فاجأت جيشاً ظل لسبعة عقود يوهم العالم بأسطورة “الجيش الذي لا يقهر”.

تمكنت فصائل المقاومة من إدارة ميدان القتال بنظام لا مركزي أسطوري، جعلها عصية على الاستئصال. فبدلاً من الاعتماد على قيادة مركزية يمكن استهدافها، تعمل كل وحدة قتالية بشكل مستقل، مع صلاحيات واسعة تمكّنها من اتخاذ القرارات التكتيكية في الميدان. هذا الهيكل التنظيمي المرن هو ما جعل جيش الاحتلال الإسرائيلي يصف مقاتلي المقاومة بـ “الأشباح”، القادرين على الظهور فجأة لشن هجمات ثم الاختفاء دون ترك أثر.

تُعد شبكة الأنفاق شريان الحياة العسكري للمقاومة، لاسيما وقد تمكن المقاتلون من استخدامها كقاعدة انطلاق لشن هجمات خاطفة، ونقل الأسلحة، وتغيير مواقعهم باستمرار. هذا النظام التحت أرضي الحيوي يُحيد بشكل فعال التفوق الجوي والاستخباراتي الهائل الذي يملكه جيش الاحتلال، ويجعل عمليات التوغل البري معقدة ومكلفة للغاية، مما يفسر بطء تقدم القوات الإسرائيلية وخسائرها المتزايدة.

فبينما كان الاحتلال يتوقع حرب عصابات تقليدية، أظهرت المقاومة قدرة مذهلة على تطوير تكتيكاتها القتالية حين فاجأته بالانتقال إلى الاشتباك المباشر في بعض الأحيان، واستخدام الأسلحة المضادة للدروع بفاعلية عالية. هذه القدرة على التكيف مع التطورات الميدانية، أظهرت عن حقيقة وجود عقل عسكري متطور، نسف توقعات جيش الاحتلال بأن المقاومة عبارة “جماعات عشوائية” يمكن القضاء بعمليات سريعة وخاطفة.

 

انحسار الأسطورة والأهداف المعلنة

على الرغم من استخدام أقصى درجات القوة، بما في ذلك تفجير مئات العربات المفخخة واستخدام أفتك القنابل، والقصف الجوي المتواصل، لم يفشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق الهدف المعلن لحكومة بنيامين نتنياهو هو “القضاء على حماس واستعادة الأسرى” فحسب، بل بعد ما يقرب من عامين، أثبتت الوقائع الميدانية والتحليلات الإعلامية العالمية أن هذا الهدف بعيد عن التحقق.

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن الاعتقاد بإمكانية توجيه ضربة قاضية لحماس “وهمي”، ونقلت عن ضباط سابقين أن الأمر سيتطلب “سنوات طويلة من القتال المكلف دون ضمان تحقيق النتيجة المرجوة”. هذه التقديرات تتناقض تماماً مع الخطاب الرسمي للاحتلال، وتؤكد أن الأهداف العسكرية غير واقعية.

لم تحقق الحملة العسكرية أهدافها، بل كلفت جيش الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وأدخلته في حالة من الجمود الاستراتيجي. بل حاولت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية تبرير الموقف بغياب أي رؤية سياسية لما بعد الحرب، واعتبرت أن النصر الموعود لن يتحقق بمجرد اجتياح بري، وأن الكيان يظل “عالقاً في القطاع دون أفق واضح للخروج”.

هذا الفراغ الاستراتيجي هو نتاج مباشر لفشل جيش الاحتلال في إخضاع المقاومة عسكرياً، فضلا عن أن الحرب كشفت بوضوح عن الأهداف الحقيقية التي تخفيها سلطات الاحتلال. كما أكدت صحيفة هآرتس أن شعار “الانتصار الشامل” يخفي أهدافاً أعمق تتعلق بـالاستيطان وتهجير السكان وتحويل غزة إلى مشروع عقاري. هذه الأهداف، التي تُشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، هي الدافع الحقيقي وراء ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.

 

العزلة الدولية غير المسبوقة

لم يقتصر فشل جيش الاحتلال على الجانب العسكري، بل امتد إلى الساحة الدولية، حيث تسببت جرائمه في عزلة غير مسبوقة، فقد أدت الأعمال الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال، والتي وثقها الإعلام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان، إلى دخول الكيان الإسرائيلي في عزلة دولية غير مسبوقة.

في السياق، تناولت صحف ومواقع عالمية التداعيات السياسية والعسكرية للعملية الإسرائيلية الجديدة في قطاع غزة، مؤكدة أن أهداف “حكومة بنيامين نتنياهو” المعلنة بشأن القضاء على حركة حماس بعيدة عن التحقق، وأن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى تعميق عزلة “إسرائيل”، وتصاعد الانتقادات الدولية ضدها.

صحيفة نيويورك تايمز الأميركية رأت أن الاعتقاد بإمكانية توجيه ضربة قاضية لحماس وهمي، مشيرة إلى أن الحركة رغم الخسائر التي تكبدتها ما زالت قوة فاعلة في القطاع، ونقلت عن ضباط سابقين أن إسرائيل ستحتاج سنوات طويلة من القتال المكلف دون ضمان تحقيق النتيجة المرجوة.

وأضافت الصحيفة أن التقديرات العسكرية تتناقض مع الخطاب الرسمي لنتنياهو، الذي يكرر وعود الانتصار السريع، وأشارت إلى أن تجارب المواجهات السابقة أثبتت قدرة حماس على إعادة تنظيم صفوفها رغم الضربات، ما يجعل الحديث عن استئصالها خلال فترة وجيزة غير واقعي.

وفي السياق نفسه، انتقدت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية غياب أي رؤية سياسية مرافقة للعملية العسكرية، واعتبرت أن النصر الموعود لن يتحقق بمجرد اجتياح بري واسع، بل يتطلب إستراتيجية بديلة لما بعد الحرب، وهو ما ترفضه حكومة نتنياهو التي تتعامل مع الحرب باعتبارها غاية بحد ذاتها.

ورأت الصحيفة أن هذه إحدى المرات القليلة التي يخوض فيها الجيش الإسرائيلي عملية واسعة النطاق وسط إدراك واسع بأنها لن تغيّر مسار الحرب، وخلصت إلى أن استمرار تجاهل البدائل السياسية يعني بقاء إسرائيل عالقة في القطاع دون أفق واضح للخروج.

أما صحيفة جيروزاليم بوست فركزت على ملف الأسرى، ودعت حكومة نتنياهو إلى العودة لطاولة المفاوضات باعتبارها السبيل الوحيد لإطلاق سراحهم، وحذرت من أن الحرب الممتدة تزيد عزلة إسرائيل، في ظل اتهامات دولية بارتكاب جرائم حرب وتصاعد الدعوات لمقاطعتها.

وأكدت الصحيفة أن الرهان على تحقيق نصر عسكري حاسم بعد عامين من القتال أصبح بلا معنى، وأوضحت أن أي حل لقضية الرهائن لن يمر عبر ساحات القتال، بل من خلال اتفاق سياسي يعكس واقعية أكبر في إدارة الأزمة.

من جهتها، اعتبرت صحيفة “هآرتس” أن شعار “الانتصار الشامل” الذي يرفعه نتنياهو يخفي أهدافا أعمق تتعلق بالاستيطان وتحويل غزة إلى مشروع عقاري.

وأشارت إلى خطط وزراء في حكومته تهدف إلى تهجير السكان الفلسطينيين من القطاع وإقامة مشروعات بديلة، في خطوة وصفتها بأنها جريمة وانتهاك صارخ للقانون الدولي.

وأضافت الصحيفة أن صمت نتنياهو إزاء هذه الطروحات يعكس الانحدار الأخلاقي والسياسي لإسرائيل، مؤكدة أن الحرب لا تجلب سوى الكوارث الإنسانية، بينما تغيب عنها أي مكاسب إستراتيجية حقيقية.

وفي قراءة دولية، كتبت صحيفة بوليتيكو الأميركية أن حالة استياء واسعة تسود دولا أوروبية وعربية إزاء الدعم الأميركي غير المشروط للكيان، وتوقعت أن يظهر هذا التوتر بوضوح في اجتماعات الأمم المتحدة المقبلة، حيث يتزايد الغضب من سياسات واشنطن تجاه الصراع.

لكن الصحيفة أوضحت أن خيارات هذه الدول تظل محدودة، فهي تسعى إلى تحقيق توازن بين التعبير عن رفضها للسياسات الإسرائيلية، وتجنب مواجهة مباشرة مع الإدارة الأميركية، مما يقلل فرص الضغط الفعلي على تل أبيب.

 

في الختام

يكشف العدوان الإسرائيلي على غزة عن تحول استراتيجي عميق لم يعد بالإمكان تجاهله. لم يعد الأمر عبارة عن مواجهة عسكرية تقليدية، بقدر ما أصبح ساحة مواجهة مصيرية بين عقيدة قتالية قائمة على الحسم السريع وأخرى متجذرة في الصمود والمرونة. لقد فشلت عقيدة جيش الاحتلال الإسرائيلي التقليدية في تحقيق أهدافها المعلنة، كما أكد خبراء عسكريون إسرائيليون بأنفسهم، وأظهرت الوقائع أن النصر العسكري ليس ممكناً بالمعادلات التقليدية.

في المقابل، لم يقتصر صمود المقاومة على الميدان العسكري فحسب، بل امتد ليفرض نفسه على الساحة السياسية والدولية. ففي الوقت الذي تتعمق فيه أزمة سلطات الاحتلال الداخلية وتتزايد عزلتها الدولية، تنجح المقاومة في إثبات قدرتها على البقاء والاستمرار، بل وتكييف تكتيكاتها القتالية. هذه القدرة على التجدد والبعث من تحت الركام هي التي حولت هذه المواجهة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، لم تعد معها الأهداف المعلنة لحكومة الحرب واقعية أو قابلة للتحقيق.

وهكذا، يظل الفشل الاستراتيجي لسلطات الاحتلال، وتعاظم العزلة الدولية، وصمود المقاومة الميداني والسياسي، هي العوامل الحاسمة التي ترسم ملامح مستقبل هذا الصراع، لتؤكد أن القوة لا تُقاس بالترسانات العسكرية وحدها، بل بالقدرة على الصمود والإيمان بقضية عادلة.

قد يعجبك ايضا