المصدر الأول لاخبار اليمن

بين الزغاريد ودموع الفقدان.. ناجي الجعفراوي يعانق الحرية بعد يومٍ من رحيل شقيقه

كتبها/عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية

على مقربةٍ من بوابة معبر رفح، كانت الحشود تنتظر منذ ساعات الفجر الأولى. عشرات العائلات الفلسطينية احتشدت تحت لهيب الشمس وارتجاف القلوب، بين من ينتظر ابناً خرج من غياهب السجون، ومن يستعيد وجع من لن يعود. وفي زحام المشاعر تلك، كان اسم ناجي الجعفراوي يتردد بصوتٍ متهدّجٍ بين الناس، بعد أن أدرج ضمن الدفعة الأولى من صفقة تبادل الأسرى.

 

حين ترجّل من الحافلة ولامست قدماه أرض غزة بعد 10 أعوام قضاها خلف قضبان الاحتلال، لم يعرف الأسير المحرر ناجي أيّ اتجاهٍ يسلكه أولاً، أن الحرية التي حلم بها طويلاً، ستأتي بطعمٍ مرّ كالفقد. ازدحمت العيون في وجهه، وامتدت الأيدي بالعناق، لكنه ظلّ يبحث في الوجوه عن وجهٍ واحدٍ غاب للأبد – شقيقه الصحفي الشهيد صالح الجعفراوي – الذي اغتيل برصاص مسلحين يعملون لصالح قوات الاحتلال قبل يومٍ واحد فقط من عودته.

 

بالأرقام وجوه ترى الحرية

بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، فقد أفرج الاحتلال اليوم عن 250 أسيراً، 83 منهم من أصحاب المؤبدات من سجن “عوفر”، و167 أسيرا من سجن النقب (كتسيعوت)، فيما سيتم نقل عدد من المفرج عنهم إلى قطاع غزة ومصر بموجب بنود الاتفاق.

وضمت القائمة 24 أسيرا من محافظة القدس يقضون أحكاما متفاوتة بالسجن الفعلي، وأقدم الأسرى المقدسيين الذين سيتحررون اليوم هو سمير أبو نعمة المعتقل منذ عام 1986.

 

المشهد الأشد قسوة

تلك المفارقة التي حملها القدر، جعلت لحظة الحرية للعديد من الأسرى المحررين أقرب إلى جرحٍ مفتوح. فبينما تزيّنت شوارع غزة بالأعلام واللافتات مرحبةً بالأسرى المحررين، تحولت خيمة استقبال الأسير ناجي في حي الجعفراوي إلى مزيجٍ من العزاء والفرح، تتقاطع فيها الزغاريد مع التهاليل الجنائزية، في مشهدٍ يلخص مأساة القضية الفلسطينية كلها فرحٌ مؤجل وحزنٌ دائم، وطنٍ يفرح بالحياة حتى في حضرة الموت.

تقول والدته، وهي تمسح دموعها بوشاحٍ أبيض حملتْه يوم الإفراج: “كنت أريد أن أحتضنهما معًا.. صالح وناجي. لكن الله كتب أن أودّع أحدهما وأستقبل الآخر”.

 

شهادة من وراء القضبان

قصة الأسير المحرر ناجي تمتد لعشر سنواتٍ من الصبر داخل الزنازين، حيث اعتقله الاحتلال بتهمة الانتماء إلى فصائل المقاومة. وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، ظل صالح – شقيقه الأصغر – الصوتَ الذي يوصل قصته إلى العالم عبر تقاريره الصحفية، حتى اغتيل في مدينة غزة خلال تغطيته أحداثاً ميدانية، تاركاً فراغاً لا يملؤه سواهما.

يوسف شرف رفيق ناجي في الأسر غرد على صفحته في منصة “إكس” قائلاً: في سجن “عوفر” حيث تضيق السماء وتُختبر الأرواح، التقيت بالأسير ناجي الجعفراوي، ذاك الرجل الذي يحمل في صوته نورًا وفي قلبه وطنًا. ناجي، إمام مسجد الكتيبة في غزة، وشقيق الشهيد صالح الجعفراوي، كان قريبًا مني كما الأخ من أخيه، تقاسمنا لقمة الجوع، ووجع القيد، وصمت الليل المليء بالحنين.

كان في الزنزانة ونسًا، لم يكن يتحدث كثيرًا عن نفسه، لكن عينيه كانتا تفضحان شوقه الكبير لأخيه صالح، ذاك الفتى الذي حمل الكاميرا بصدق المجاهدين، وصوّر الحقيقة حتى صار هو نفسه مشهدًا من مشاهدها.

أتذكر كيف أخبرني ناجي أن المحقق “الإسرائيلي” هدده مرارًا: “سنغتال أخاك صالحًا إن لم يصمت”.

وكان ناجي يرد بهدوء المؤمن: “أمرُ صالحٍ عند الله، لا عندكم”.

اليوم، رحل صالح شهيدًا، وبقي ناجي أسيرًا، لكن كليهما حرّ بطريقته.

أحدهما يسكن السماء، والآخر يضيء ظلمة الزنازين بآيات الصبر.

وكلما تذكرت أصواته في السجن، وصدى القرآن في ممرات “عوفر”، أدركت أن الحديد لا يقوى على كتم الإي

 

ثمن الحرية

من بين هتافات الجماهير التي استقبلت الأسرى في رفح، كان صدى الحدث أكبر من مجرد تبادل أسماء بين الأسرى والمحتجزين، كان استعادةً رمزية لكرامةٍ وطنية حاول الاحتلال طمسها، ورسالةً بأن الفلسطيني، مهما كُسر، لا يتوقف عن الحلم بالحياة والحرية.

وفي لحظةٍ غلبت فيها الدموع على الابتسامات، وقف ناجي أمام خيمة العزاء، رفع يده نحو صورة شقيقه المعلقة على الجدار، وقال بصوتٍ متكسر وهو يعانق والده: “كنت أحلم أن يكون أول من أراه هو أخي صالح، لكنه سبقني إلى حريةٍ أكبر، صالح حرّ مثلي.. لكن بطريقته”.

تلك الجملة وحدها تختصر التراجيديا الفلسطينية التي تتكرر كل يوم: أسير خرج من السجن إلى وطنٍ لا يزال محاصراً بالحزن يعانق الحرية فوق رماد الفقد، وأمّ تقف بين قبرٍ مفتوحٍ وبابٍ مفتوحٍ، توزّع نظراتها بين صورة ابنها الشهيد ووجه ابنها المحرر، لا تعرف أيّهما أولى بالدمعة وأيهما أحق بالابتسامة.

وفي المساء، حين هدأت أصوات الاستقبال، ظلّ المشهد في غزة ينطق بالحقيقة ذاتها: أن الحرية هنا ليست احتفالاً، بل اختبارٌ يوميٌّ للبقاء.

 

قد يعجبك ايضا