في انتقاد هو الأشد منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتّهم القائد الأسبق لغرفة العمليات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، الجنرال الاحتياط “يسرائيل زيف”، حكومة “بنيامين نتنياهو” بأنها فقدت بوصلتها السياسية والأمنية، وتسعى إلى استغلال فترة الهدوء النسبي لإشعال مواجهة جديدة في القطاع، رغم الضغوط الأميركية للحفاظ على اتفاق الهدنة.
وقال “زيف”، في مقالٍ مطوّل نشره موقع “القناة 12 العبرية، إن “الزيارات الأميركية المتتالية إلى إسرائيل تعبّر عن إدراك متأخر لدى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست شريكاً حقيقياً لأي تسوية معقولة، بل تسعى فقط لاستثمار الوقت لإعادة إشعال الحرب”.
وأشار إلى أن واشنطن باتت تتعامل مع حكومة “نتنياهو” كجهة تحتاج إلى رعاية سياسية أكثر من كونها شريكاً استراتيجياً، مضيفاً أن “ترامب بدأ يدرك أن نتنياهو لا يريد إنهاء الصراع، بل إدارته بما يخدم مصالحه الشخصية”.
إقالة “هنغبي”.. رسالة سياسية خطيرة
واعتبر الجنرال “الإسرائيلي” أن إقالة مستشار الأمن القومي “تساحي هنغبي” تمثل أكثر من مجرد تغيير إداري، مشيراً إلى أنها “نزعٌ لآخر مسمار مهني في مؤسسة الأمن الإسرائيلية”.
وأوضح أن القرار جاء عقاباً لـ”هنغبي” بعدما تمسّك بموقفه المهني الرافض لعملية “مركبات جدعون” التي وصفها زيف بأنها حملة سياسية بغطاء أمني، مشدداً على أن “نتنياهو يكرر أخطاء الماضي بتصفية الأصوات المهنية المستقلة داخل المنظومة الأمنية”.
وأضاف: “هنغبي لم يدفع ثمن معارضته فقط، بل أيضاً جرأته على المطالبة بالتحقيق في إخفاق السابع من أكتوبر، وتلميحه إلى ضرورة تشكيل لجنة تحقيق رسمية، وهي الخطوة التي يهرب منها نتنياهو منذ عامين”.
وبنبرة حادة كتب زيف: “بعد استقالة وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر قريباً، ستبدو آلية اتخاذ القرار في إسرائيل شبيهة بتلك التي سادت في نظام صدام حسين، حيث صفّى الحاكم جميع أصحاب النفوذ من حوله الواحد تلو الآخر”.
“كاتش 22”.. جنون الحرب في رواية واقعية
وفي مقارنته بين الواقع “الإسرائيلي” ورواية “كاتش 22” الساخرة للكاتب اليهودي الأميركي جوزيف هيلر، قال “زيف” إن الحرب الأخيرة في غزة “تحولت إلى حلقة عبثية منطقها مقلوب”.
وأضاف: “في الرواية، يُعتبر الجندي الذي يخاف من القتال عاقلاً، لكن لا يُعفى من الخدمة، لأن هناك حاجة إلى مقاتلين. في إسرائيل، من يحاول التفكير بعقلانية أو يعبّر عن تحفظ أمني يُتهم فوراً بالجبن أو بمعارضة النصر”.
وأشار إلى أن “جميع الأصوات التي حاولت الدعوة لوقف القتال أو إعادة تقييم الأهداف، تم تشويهها عمداً لخدمة خطاب نتنياهو السياسي”، معتبراً أن “الثمن الذي دُفع في غزة لم يكن لأسباب أمنية بل لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة”.
ويضيف: “هذا هو الفخ الذي نصبه نتنياهو طوال سنة ونصف من الحرب حتى ضاق ترامب ذرعاً به، وأوقفه تماماً”.
القرار بيد واشنطن
يرى “زيف” أن واشنطن باتت تمسك بخيوط القرار في الاحتلال الإسرائيلي بالكامل، قائلاً: “نتنياهو ونائب الرئيس الأميركي جي دي فانس يؤديان حالياً دور جليسة الأطفال لإسرائيل، في وقت لا يثق فيه الأميركيون بحكومة نتنياهو ولا يتركون لها هامش حركة”.
ويتابع: “الولايات المتحدة أرسلت وفوداً متلاحقة إلى تل أبيب لمراقبة كل خطوة، لأنها لا تريد أن تتفاجأ مرة أخرى كما حدث في الدوحة، عندما أطلقت إسرائيل عملية دون تنسيق مسبق”.
ويحذر “زيف” من أن استمرار حالة التخبط الحالية “يشكل قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي وقت، خصوصاً مع تزايد الصراع داخل أروقة الحكومة الإسرائيلية حول إدارة الاتفاق في غزة”.
صراع عربي ـ إقليمي حول ملف غزة
وفي تحليله للمشهد الإقليمي، أشار “زيف” إلى معركة سياسية صامتة تدور بين الأطراف العربية حول من سيتولى الدور الأبرز في تنفيذ اتفاق غزة.
وأوضح أن “المحور القطري ـ التركي يحاول الإمساك بالملف من بوابة حماس، بينما تدفع مصر والسعودية والإمارات باتجاه دور أكبر لها في إدارة المشهد”، مشيراً إلى أن القاهرة “تظل الطرف الأكثر تأثيراً عملياً، لأنها وحدها القادرة على الضغط على حماس، التي لن تجرؤ على مخالفتها”.
وأضاف أن “إسرائيل قد تتوهم أنها صاحبة القرار في تحديد من يدير غزة، لكنها في الواقع خارج اللعبة”، متوقعاً أن “يكتشف ترامب وفريقه قريباً أن نتنياهو وحكومته المتطرفة لا يريدون السلام، بل يسعون إلى ضم الأراضي وتدمير السلطة الفلسطينية”.
وقال زيف: “يكفي النظر إلى تمرير قانون السيادة خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي لفهم أن هذه الحكومة لا تسعى إلى التهدئة أو التقدم في الاتفاق، بل إلى تثبيت احتلالها وتوسيع نفوذها”.
ذروة الإهانة السياسية
ويستعيد الجنرال الإسرائيلي ما وصفه بـ”الفرصة الضائعة” عندما كانت إسرائيل في موقع القوة قبل عام، قائلاً: “كان يمكن لتل أبيب أن تملي شروطها كطرف منتصر، وتفرض واقع اليوم التالي في غزة، لكنها ضيّعت تلك اللحظة بسبب غرور السلطة لدى نتنياهو، وانشغاله بنفسه لا بمصالح الدولة”.
وأضاف: “لو تصرفت إسرائيل بعقلانية، لكانت حماس في موقع ضعف، ولكان العالم قد دعم مطالبها. لكن نتنياهو اختار التصعيد وشن الهجوم على الدوحة خلافاً لكل التوصيات، فخسر المبادرة وترك الولايات المتحدة تملي عليه الخطوط الحمراء”.
ويصف زيف المشهد في “الكنيست” خلال خطاب ترامب الأخير بأنه “لحظة إذلال قومي”، قائلاً: “كان منظراً محرجاً أن نرى رئيس الحكومة يطلب العفو أمام الجميع، فيما صفق له الوزراء كأنهم رعايا لملكٍ أنهى بخطبة قصيرة أوهام النصر المزعوم”.
فشل كامل لا نصر مطلق
وفي ختام مقاله، يقرّ “زيف” بأن عامين من الحرب والتكاليف الهائلة انتهيا بفشل كامل، قائلاً: “لم تحقق إسرائيل نصراً حقيقياً، بل تحولت إلى أضحوكة أمام حلفائها. الأبواق التي كانت تنفخ شعارات النصر تحولت فجأة إلى نشاز موسيقي يتحدث عن السلام، دون رؤية أو خطة واضحة”.
ويتابع: “النتيجة أن القرار اليوم بيد واشنطن، فهي من ستفرض تنفيذ الاتفاق، وستديره بانضباط كما تفعل في كل الملفات”.
ويختم الجنرال مقاله برسالة إلى المستوطنين: “هناك أمر واحد فقط يجب أن يقاتل من أجله الشعب الآن: حقه في تغيير القيادة. بعد عامين من الإخفاقات، حكومة لم تطلب الصفح ولم تتحمل مسؤولية، لا يمكنها أن تواصل الحكم. يجب أن تفسح المجال لإرادة الناس، فهذه ليست معركة أمنية بل معركة بقاء سياسي وأخلاقي”.