عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
لم يكن صباح الأحد في مخيم الشاطئ كأي صباح.. كان بيت عائلة العمودي غارقًا في أجواء من البهجة الممزوجة بالتوتر الجميل الذي يسبق الأفراح.. فرح فلسطيني بطعم الحذر، محاط بقلق الغارات وخوف الأمهات، الزينة تملأ الجدران، فساتين النساء والأطفال معلقة على الحبال، وصوت أم العروس يعلو وهي تراجع التفاصيل الصغيرة بدقة: هل وصلت الحلوى؟ هل اتصلتم بالكوافيرة؟ هل فرشوا القاعة جيدًا؟
أما محمد أشرف العمودي، ابنها البكر، فكان أكثر الناس فرحًا في هذا اليوم.. كان يعدّ الدقائق التي تفصله عن رؤية شقيقته بثوبها الأبيض.. يطوف بين البيوت يوزع الدعوات، راقب العمال وهم يعلّقون الفوانيس عند مدخل الزقاق، وابتسم لكل طفل مرّ من أمامه.. بدا وكأنه يحمل الفرح بين يديه، ويحرص على توزيعه بالتساوي على وجوه الجميع.
تفاصيل القصة
وعند الظهيرة، في يومٍ مشمس من أيام غزة التي نادراً ما تعرف الطمأنينة، وبين أزقة مخيم الشاطئ، كان محمد أشرف العمودي يركض في كل اتجاه، يوزّع الابتسامات، يضبط التفاصيل الأخيرة لحفل زفاف شقيقته.. كان قلبه يخفق فرحًا، وهو يرى البيت يزدان بالألوان، والزغاريد تملأ المكان استعدادًا ليوم العمر.
خرج محمد إلى الشارع ليتأكد من تجهيزات الزفاف.. أوقف أحد المارة ليعطيه توجيهات عن ساعة الانطلاق، ووقف يتحدث مع أحد الجيران عن ترتيبات الزفة، لم يكن يعلم أن طائرات الاحتلال كانت تراقب المشهد من السماء، تبحث عن أي نبض للحياة… لتطفئه.
لم يكن يدري أن “عمره” سيتوقف هناك، في نفس اللحظة التي كان يتحسس فيها فوانيس الزينة على باب البيت، ويراجع قائمة الحلويات التي ستوزع على الجيران.. لم يكن يدري أن الطائرات التي اعتادت سماء غزة أن تئن من أزيزها، ستختطفه قبل أن يرى أخته بثوبها الأبيض.. ويلبس هو الثوب البيض.
في لحظة خاطفة، دوى الانفجار.. اهتزت الأرض، تناثرت الشظايا صرخات، غبار، وارتباك، سقط محمد.. شهيدًا، وسط الشارع الذي شهد ضحكاته منذ الطفولة، تمامًا أمام منزلهم.. سقط مصابًا إصابة مباشرة في الرأس لم يُنقَل إلى المستشفى، لم تسعفه اللحظة.. ارتقى شهيدًا، وفي عينيه لا تزال تنعكس صورة أخته وهي تبتسم بين الزينة.
استهدفته غارة جوية صهيونية، وهو أعزل، لا يحمل سوى حلمه بأن يزف أخته فرحة، وأن يكون أول من يرقص لها.
الفرح تحول إلى مأتم
تبدلت الزغاريد إلى نواح، وارتدى البيت وشاح الحداد، الأم.. التي كانت تحضّر فستان ابنتها، غسلت وجهها بدموع الفقدان، واحتضنت فستان الزفاف كما تحتضن الكفن، كانت ستزف ابنتها عروسًا، لكنها زفّت ابنها شهيدًا.. عريسًا إلى الجنان.
هرعت الأم إلى الخارج، تركت كل شيء خلفها: الزفاف، الفرح، الأمل.. صرخت باسمه، لكنها لم تسمع إلا رجع صدى الألم، هناك.. وسط الدم والغبار، عرفت أن العرس تحوّل إلى مأتم.
لم تلبس ابنتهما الفستان الأبيض.. لُفّ محمد بكفن أبيض، وحُمل على الأكتاف، لا إلى صالة الأفراح… بل إلى مثواه الأخير.
الزغاريد التي تدربت عليها أم العروس طيلة أسبوع كامل، خرجت من فمها اليوم مكسورة، متقطعة، حين زفّت ابنها إلى السماء، عريسًا من نوعٍ آخر.
حلم لم يتحقق
“محمد كان يحلم أن يراها عروسًا.. لكنه رحل قبل أن ينظر في عينيها بثوبها الأبيض”
كان يحلم أن يزفني عروسًا، لكنه رحل قبلي”، قالت شقيقته وهي ترتجف أمام صورته، تحتضن قميصه الأخير، وتبكي زمنًا لم يُمهلهما أن يفرحا سويًا.
محمد، الشاب الذي لم يتجاوز الرابعة والعشرين، لم يكن مقاتلًا.. لم يحمل سلاحًا، ولم يكن في موقع عسكري كان ابن حي، يحب الحياة، يعشق الضحك، ويحلم بالفرح وسط ركام العدوان المتتالية، كل ما كان يحمله يوم استشهاده.. أن يرى أخته عروساً ويرقص قي زفافها، وفي لحظة.. انطفأ الحلم، وتحول العرس إلى مأتم.
لكن في غزة، لا تُكمل الحكايات كما كُتبت، وهنا، لا يسير العرسان دائمًا إلى القاعات، بعضهم… يُزفّ إلى الجنان، كما لا تُزف العرائس وحدهن، فكل شهيدٍ.. له زفافه.
ودّع مخيم الشاطئ واحدًا من أبنائه الطيبين.. بينما لا تزال سماء غزة تمطر نارًا، لا يزال القلب الفلسطيني يتعلم كل يوم كيف يخبئ الوجع، ويزرع في التراب زهرة.