في مشهد يتجاوز حدود الخيال وتفاصيله تقفز عن أكثر السيناريوهات درامية، خرج الطفل محمد المعتصم بالله الدعالسة البالغ من العمر خمس سنوات من ثلاجة الموتى بعد 24 ساعة من إعلان استشهاده مع كامل عائلته، التي قضت تحت أنقاض منزلها في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة.
ففي قصفٍ دمّر منزل عائلة الدعالسة المكتظ بعدد كبير من أفراد العائلة النازحين فوق رؤوس ساكنيه في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، ارتفع 31 فردًا من عائلة الطفل محمد إلى السماء دفعة واحدة.. أمه، أبوه، إخوته، عماته، أبناء خالاته، كلهم.. لم يبقَ أحد سوى عمه محمد الذي لم يكن حينها متواجداً بالمنزل.
“نسوانهم إخواتي، ولاد إخواتي ولادي، أمي… كلهم استشهدوا”، قالها العم محمد الدعالسة عم الطفل الناجي محمد المعتصم بالله بصوت متهدج لا يزال يحمل ارتجاف الصدمة، وهو يروي لحظة انتشال جثث أفراد عائلته من تحت الأنقاض.
القدر يسير عكس تيار الموت
الطفل محمد مع عمه
سُجّلت أسماؤهم على لوائح الموتى، واصطفت جثامينهم في أكياس سوداء.. وحين وصلوا إلى ثلاجة الموتى، كان محمد من بينهم، ساكن الوجه، لا حركة فيه، وعيناه مغلقتان كأنه نائم إلى الأبد.
برد الثلاجة كان يقضم جسده الصغير، والكيس الأسود قد التف حوله بإحكام، لا أحد شكّ.. ولا حتى للحظة، أن الطفل محمد قد صار شهيدًا.
في اليوم التالي، حضر العم محمد للمشاركة في تكفينه.. وقف أمام الجثمان، يهمّ بفتح الكيس لتوديعه، ربما ليربت على جبينه الصغير، أو ليقبّله للمرة الأخيرة، لكن شيئًا ما كان مختلفًا.. لمح شيئًا غريبًا في وجه الطفل.. اقترب منه أكثر، أمعن النظر، ليتبين أن الصغير يتنفس بصعوبة.. كان النبض خافتًا لكنه موجود، والحياة ما تزال ترفرف في هذا الجسد الطري.
ركض بجسده النحيل يصرخ في الأطباء: “ابن أخي بيتنفس! لسه عايش! لسه فيه نفس!”
سارع الطاقم الطبي بإجراء الإسعافات، كانت ضربات القلب ضعيفة، والتنفس متقطعًا، لكن النبض موجود، محمد يعود.. من بين الأموات، لم يكن ذلك تدخلًا طبيًا فحسب.. بل صرخة في وجه الفناء.
خمسة عشر يومًا قضاها محمد في العناية المركزة، معلّقًا بين الحياة والموت، العم لا يبرح سريره، يهمس في أذنه باسمه، وبعد أسبوعين، فتح محمد عينيه.. نظر من حوله، لم يجد أحدًا يعرفه، فقط وجهٌ مألوف، يبتسم له والدموع تفيض من عينيه قائلاً: “أنا عمك يا محمد… أنا اللي بقيت لك.”
ورغم الكسور العميقة والإصابات البالغة التي نالت من جسده الصغير، فإن نجاته تُعد معجزة في غزة التي لم تعد تجد فيها المستشفيات الدواء، ولا المسعفون الوقود، ولا الأطباء مكانًا آمنًا للنجاة.
محمد، الطفل المعجزة، لم ينجُ فقط من القصف، بل من ثلاجةٍ أُعدت لاحتضانه جثمانًا، فخرج منها حيًّا.. عاد من الموت، شاهداً صغيرًا على وحشية لا ترحم، وحكاية موجعة من بين آلاف القصص التي تئن بها غزة المحاصَرة.
تلك المعجزة الصغيرة التي خرجت من قلب الكارثة، ذلك الجسد الذي أصر أن يتنفس رغم القصف والركام والبرد والموت.. هو شهادة حيّة على بشاعة ما يحدث في غزة من جرائم فاقت في بشاعتها قوانين الغاب.