إرهاب المستوطنين في الضفة.. حرب تهويد تحت حماية الاحتلال وصمت السلطة
رام الله | زهرة الصبار | وكالة الصحافة اليمنية:
منذ مطلع عام 2025، تشهد الضفة الغربية تصعيدًا غير مسبوق في اعتداءات المستوطنين “الإسرائيليين” ضد المدنيين الفلسطينيين، وسط صمت رسمي قاتل وتواطؤ أمني مكشوف. فمن بلدة المغير شرق رام الله إلى قريوت جنوب نابلس، ومن بيتا إلى ترمسعيا، لا يكاد يمرّ يوم دون هجوم دموي أو إحراق متعمد لمنازل الفلسطينيين أو ملاحقات مسلحة في الحقول والطرقات.
لكن ما الذي يقف خلف هذا التصعيد؟ وهل هو سلوك فردي أم أن الضفة الغربية باتت تخضع لعملية تهويد ممنهج يتخذ من إرهاب المستوطنين أداة أساسية؟
في أحد الليالي الهادئة في بلدة المغير شرقي رام الله، تحولت الطرقات الترابية إلى ساحة معركة.. عشرات المستوطنين المدججين بالسلاح، بعضهم ملثمون، تسللوا نحو المنازل وأضرموا النيران في ثلاث منها فيما دمرت 4 منازل أخرى، كما أُحرقت أكثر من 15 سيارة، حدث كل ذلك، فيما كان السكان نيامًا، وتحت أنظار قوات الاحتلال.
في الصباح، بقيت آثار الدخان والحطام، فيما رحل الجناة كما جاؤوا.. تحت حماية جيش الاحتلال. هذه الحادثة، التي وقعت في مارس الماضي، ليست استثناءً، بل واحدة من أكثر من 1428 اعتداءً نفذها المستوطنون منذ بداية العام وحتى 11 يوليو 2025 في الضفة الغربية.
وفي يونيو، اقتحمت مجموعة مسلحة من المستوطنين بلدة دير دبوان وأطلقت النار تجاه منازل المواطنين، ما أدى إلى استشهاد شابين، بينما تم توثيق لحظة استشهاد أحدهما وهو يحاول الدفاع عن قريته بالحجارة فقط.
وخلال أسبوع واحد فقط، شهدت قرى ترمسعيا وقريوت واللبن الشرقية وبيتا موجة متزامنة من الهجمات، تراوحت بين حرق المحاصيل الزراعية والاعتداءات الجسدية على المزارعين واقتحام البيوت ليلاً.
أرقام مفزعة تكشف حجم الإرهاب
وفقًا لتوثيق قمنا به بحسب بيانات المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، بلغ عدد الاعتداءات التي نفذها المستوطنون منذ بداية العام 2025 وحتى 11 يوليو الجاري، 1428 اعتداءً، وهو رقم غير مسبوق يُظهر التحول الكبير من “اعتداءات فردية” إلى “عنف منظم وممنهج.
تشمل هذه الاعتداءات حرق منازل ومركبات، وتدمير محاصيل، وإطلاق نار مباشر، واقتحامات جماعية للقرى، وحتى اختطاف شبان والاعتداء عليهم بالضرب والتنكيل، تحت غطاء من جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يواكب تلك الهجمات ويوفر للمعتدين الحماية اللازمة لمغادرة المكان دون مساءلة.
خطة ممنهجة للتهجير
على خلاف رواية الاحتلال الإسرائيلي التي تحاول توصيف هذه الاعتداءات كردود فعل على أحداث أمنية، بات واضحًا أن هجمات المستوطنين ليست عشوائية، بل تُنفّذ وفق خطة منظمة لترويع سكان القرى ودفعهم إلى الرحيل عن أراضيهم قسرًا.
من خلال تحليل عشرات الهجمات الأخيرة، يتضح أن المستوطنين لا ينفذون هجماتهم بشكل ارتجالي أو عفوي.. التحقيق يشير إلى وجود نمط واضح:
-
كل يوم تُستهدف بلدة أو قرية فلسطينية جديدة.
-
يتم الهجوم في ساعات الليل أو الفجر، في توقيت ضعف الحضور الإعلامي.
-
ينفذ الاعتداء مجموعة كبيرة من المستوطنين، يصل عددهم أحيانًا إلى 70 مستوطن مسلحين بعصي وأسلحة نارية.
-
جيش الاحتلال يرافقهم، وفي بعض الحالات يتدخل لقمع الأهالي الذين يحاولون الدفاع عن أنفسهم.
يقول الناشط الحقوقي عيسى عمرو من مدينة الخليل مؤسس ومنسق “شباب ضد المستوطنات” (ياس) في تصريح لوكالة الصحافة اليمنية: “هذه ليست عصابات منفلتة.. ما نراه على الأرض هو مخطط تهجير تدريجي.. الحرق والترويع والإرهاب هدفه إخراج الفلسطيني من أرضه، بالقوة أو بالإحباط.”
من المستفيد؟
من خلال متابعة التوسع الاستيطاني خلال النصف الأول من العام 2025، يتضح أن الاعتداءات ليست منفصلة عن مشروع تهويد جغرافي مدروس:
-
معظم القرى التي تتعرض للاعتداءات تقع ضمن المناطق الزراعية الخصبة.
-
بعد كل هجوم، يتم إقامة بؤرة استيطانية صغيرة مكان الأرض المستهدفة.
-
يتم تسييج المنطقة، ومنع المزارعين الفلسطينيين من العودة إليها.
يقول الباحث في شؤون القدس والاستيطان “الإسرائيلي” علاء الريماوي، في حديث إلى وكالة الصحافة اليمنية: “الهدف هو إعادة رسم خريطة السيطرة في الضفة.. ما فشل فيه الاحتلال عبر المفاوضات، ينفذه الآن عبر المستوطنين”.
أرقام لا تُكذّب
منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى لحظة إعداد هذا التحقيق، قُتل أكثر من 22 فلسطينيًا برصاص المستوطنين وحدهم، دون تدخل جيش الاحتلال، أو بعد أن أتاح لهم تنفيذ الجريمة والانصراف.. ما يؤكد أن عصابات المستوطنين باتت تمثل جيشًا رديفًا “لإرهاب الدولة”، يُنفّذ مهام التهجير القسري والتطهير العرقي تحت مظلة رسمية كاملة من الحكومة الصهيونية.
في بلدة دير دبوان وحدها، وثّق هذا التحقيق استشهاد الشابين جهاد خريوش وسليم زيد، بعد اقتحام المستوطنين للبلدة في يونيو، تحت حراسة عسكرية مشددة. عائلة خريوش تحدثت لوكالة الصحافة اليمنية قائلة: “حاول جهاد الدفاع عن الحارة بالحجارة.. جاء جندي وأبعده، ثم أطلق أحد المستوطنين النار على صدره من مسافة قريبة”.
وتابعت: “نزف جهاد أكثر من نصف ساعة، وجيش الاحتلال منعنا من الاقتراب منه كما رفض إدخال سيارة الإسعاف”.
في مرمى النكبة الجديدة
بين قرى تُقاوم وأخرى تنتظر دورها، تتباين ردود الأفعال في الضفة الغربية؛ ففي بعض البلدات، بدأ الشباب بتشكيل مجموعات حماية شعبية، يرابطون ليلًا، ويتصدون للمستوطنين بما توفر لديهم من وسائل بسيطة: حجارة، وزجاجات حارقة، وأحيانًا حتى الأيدي العارية.
في المقابل، هناك قرى لا تزال تعيش حالة من الانتظار القاتل. بعض السكان ينتظرون أن “يمر الخطر”، أو يتنازعون داخليًا، في وقت يتقدم فيه الاستيطان كأفعى تلتهم الأرض شبرًا شبرًا.
خلال التحقيق، تم رصد نوعين من ردود الفعل الشعبية:
أولًا – قرى تقاوم
بدأت قرى في الضفة الغربية بتنظيم لجان حماية شعبية، مثل بلدة بيتا جنوب نابلس، تحول أهلها إلى نموذج للصمود. شبان يراقبون الطرقات ليلًا، وآخرون يُسعفون الجرحى، بينما النسوة يُعددن الطعام للمرابطين، في مشهد يُعيد إلى الأذهان بدايات انتفاضة الحجارة.
أما في بلدة المغير، كفر قدوم، فقد اتخذت لجان حماية شعبية تدابير أمنية، منها تُسيّر دوريات ليلية تطوعية، ونصب كمائن بالحجارة لإعاقة المستوطنين، واستخدام صافرات إنذار محلية لتحذير السكان من أي اقتراب.
ثانيًا – قرى صامتة
في المقابل ثمة قرى لا تزال ساكنة، إما لأسباب تتعلق بالخوف أو بسبب الانقسامات الداخلية أو ضغط السلطة الفلسطينية بعدم التصعيد.
في قرى مثل اللبن الشرقية أو عينابوس، ظهر هذا الانقسام جليًا، حيث أدى غياب التنسيق الشعبي إلى تعرّض بعض العائلات لاعتداءات متكررة دون رد فعل جماعي رادع.
يقول أحد وجهاء بلدة اللبن الشرقية جنوب نابلس: “في بعض الأحيان، يُطلب منا ضبط النفس حفاظًا على ‘التنسيق الأمني”. لكن الواقع أن كل قرية تسكت، تجد نفسها هدفاً في اليوم التالي”.
ويضيف لوكالة الصحافة اليمنية: “لقد تعرضت قريتنا لهجمات عدة من قبل المستوطنين كان أعنفها في أكتوبر الماضي، حيث أقدم المستوطنون على إحراق منزل وتحطيم نوافذه كما قاموا بحرق المحاصيل الزراعية وتدمير محطة الوقود”.
وفي الثاني من يونيو الماضي قام مستوطنون برفقة جيش الاحتلال بجرف الطرقات وأقاموا حاجزًا ترابيًا لسد مدخل البلدة الرئيسي الرابط بين البلدة ومدينة نابلس وظلوا طوال ثلاثة أيام يغلقون الطريق أمام الفلسطينيين ويعربدون ويتظاهرون عند مدخل بلدة اللبن الشرقية، بهدف تهجير السكان الفلسطينيين والرحيل عن البلدة.
السلطة الفلسطينية.. غياب لا تفسير له
وسط هذه الهجمة الواسعة، يبرز دور السلطة الفلسطينية كعامل سلبي، أو في أحسن الأحوال كشاهد صامت؛ فمعظم الاعتداءات تجري في وضح النهار، وعلى مقربة من الحواجز العسكرية الفلسطينية، دون أن تتحرك الأجهزة الأمنية أو تُرسل تعزيزات لحماية المواطنين.
بل إن شهود عيان أكدوا أن الأجهزة الأمنية اعتقلت بعض الشبان الذين حاولوا التصدي لاقتحامات المستوطنين، بحجة الحفاظ على الأمن العام و”عدم التصعيد”، ما يثير تساؤلات حقيقية حول أولويات السلطة وارتباطاتها الأمنية مع الاحتلال.
السؤال الذي تكرر على ألسنة معظم من تحدثت إليهم كان: أين السلطة؟
في ما نسبته 92 في المئة من الحالات الموثقة، لم تسجل أي تدخل من الأجهزة الأمنية الفلسطينية لصد اعتداء المستوطنين. وفي مرات قليلة، اقتصر دور السلطة على إصدار بيانات إدانة باهتة، لم تردع مستوطنًا واحدًا ولم تُسعف جريحًا أو تُعيد حقًا منهوبًا.
حتى البيانات الرسمية، لم تتجاوز عبارات الإدانة المتكررة، دون أي خطوات عملية على الأرض، ما دفع الكثيرين للتساؤل: هل أصبحت السلطة شريكًا في الصمت؟
قمع السلطة
الأخطر في كل ذلك ما حدث في 14 ديسمبر الماضي حين نفذت السلطة حملة قمع مسلح بإشراف مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي، تحت شعار “حماية وطن” ضد فصائل المقاومة في مخيم جنين الذي يعتبر ثاني أكبر مخيمات الضفة.
الحملة القمعية في جنين ومخيمها نفذتها “الوحدة 101” التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي تتلقى تدريبًا لدى الجيشين الأميركي والكندي، حيث تم إنشاؤها عام 2021 ضمن “خطة فنتزل” الهادفة للقضاء على فصائل المقاومة في الضفة.
وخلال تلك الحملة وثقنا عبر منظمات حقوقية فلسطينية ارتكاب السلطة الفلسطينية في الضفة جرائم بحق المقاومون الفلسطينيون في مخيم جنين بلغت: 10 حالات قتل من بينهم القائد البارز في “كتيبة جنين” يزيد جعايصة، و47 إصابة جسدية، و329 حالة اعتقال، إلى جانب 43 حالة استدعاء أمني، و17 عملية تفكيك عبوات.
الصحفي والمحلل السياسي هاني المصري مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات) يرى في حديث إلى وكالة الصحافة اليمنية أن: “السلطة لا تملك قرار المواجهة، ولا تجرؤ على إزعاج الاحتلال.. لذلك نجدها تحاول أن تدير الأزمة وليس حلها، ولو على حساب دم الناس”.
معركة على الأرض
الضفة الغربية اليوم ليست أمام “موسم مواجهات” أو جولة عابرة، بل أمام حرب تهويد ممنهجة، تُنفّذ بخطى ثابتة، مستندة إلى ثلاثي الدعم: جيش الاحتلال، عصابات المستوطنين، وصمت السلطة الفلسطينية.
يبدو أن هذه المعركة لن تُحسم بالبيانات، ولا بالمفاوضات، بل بصمود القرى، وتشكيل خطوط دفاع حقيقية على الأرض.
“من لا يُدافع عن أرضه يُطرَد منها”، هذا الشعار لم يعد مجرد مقولة، بل حقيقة مرّة تتكرّر في كل قرية تُحرق، وكل منزل يُهجّر، وكل أرض تُسرق. ومن لا يقاتل اليوم، قد يجد نفسه لاجئًا في وطنه غدًا، أو شاهد زور على خيانة وطنية تُرتكب باسمه.
“لا يمكن لأي شعب تحت الاحتلال أن ينتظر الخلاص من الخارج، ولا أن يراهن على مجتمع دولي أثبت عجزه، أو سلطة فقدت شرعيتها”، يقول المقاومون الفلسطينيون. فالخيار الوحيد هو المقاومة الشعبية بكل أشكالها، وتحويل كل قرية إلى خندق دفاع، وكل بيت إلى نقطة رباط، حتى يعلم المعتدي أن كلفة عدوانه ستكون أكبر من أرباحه.
الحل من الميدان
في ظل هذا الواقع المتفجر، لم يعد أمام أهالي الضفة الغربية سوى خيار المواجهة الشعبية والتنظيم الذاتي؛ فالحماية لم تعد تأتي من الشرطة، ولا من المؤسسات الرسمية، بل من لجان الحراسة الشعبية التي بدأت تنتشر في عدة بلدات.
توصل التحقيق إلى أن السبيل الوحيد لردع الاعتداءات يتمثل في: تشكيل لجان حماية دائمة في كل قرية، ولجان مراقبة ليلية في القرى المهددة، وإنشاء غرف تنسيق ميدانية للدفاع المشترك بين البلدات المجاورة، وتفعيل وسائل إعلام محلية لتوثيق وفضح كل اعتداء بالصوت والصورة، على منصات التواصل، وفضح تواطؤ السلطة ورفع الصوت بوجهها، فالصمت ليس حيادًا بل شراكة في الجريمة.
وإلى ذلك يضاف الضغط الشعبي على السلطة لتغيير موقفها أو على الأقل التوقف عن ملاحقة من يدافع عن نفسه، ومخاطبة المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بلغة الإحصائيات والمشاهد الميدانية، ورفع دعاوى قانونية في المحاكم الدولية ضد قيادات المستوطنين، كمجرمي حرب.
نكبة صامتة
ما يجري في الضفة الغربية ليس أحداثًا متفرقة، بل نكبة صامتة تتقدم بخطى واثقة، أدواتها ليست الطرد الجماعي كما في عام 1948، بل التهجير المنهجي ببطء، حقلًا بعد حقل، وقرية بعد قرية، وبيتًا بعد بيت، ومدينة بعد مدينة.
وفي ظل غياب الردع القانوني، وتراخي السلطة، لا يبقى أمام الفلسطينيين سوى العودة إلى أدواتهم الأولى: الرباط، السلاح، الصمود.
إن لم تُكتب خطة مواجهة موحدة اليوم، فقد تُكتب خريطة تهويد جديدة غدًا، بخط المستوطن وصمت الفلسطيني.
فمن الضفة الغربية تبدأ النكبة القادمة.. أو الانتفاضة الكبرى الجديدة.