المصدر الأول لاخبار اليمن

استهداف الصحفيين في غزة.. جريمة ممنهجة لإسكات الحقيقة

تحليل/وكالة الصحافة اليمنية//

لم يعد استهداف الصحفيين في قطاع غزة حدثًا استثنائيًا، بل تحوّل إلى مشهد متكرر يكشف عن سياسة متعمدة تتبعها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات، بهدف طمس الحقائق وإسكات الأصوات التي تنقل معاناة الفلسطينيين للعالم.

آخر هذه الجرائم كانت البارحة، حين قصف قوات الاحتلال خيمة إعلامية في محيط مستشفى الشفاء شمال القطاع، ما أسفر عن استشهاد خمسة صحفيين، بينهم مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف، أحد أبرز المراسلين الميدانيين الذين واصلوا عملهم تحت القصف والجوع والإرهاق حتى الرمق الأخيرة.

هذه الجريمة رفعت حصيلة شهداء الصحافة في غزة إلى 267 صحفيًا منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، وفق إحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، في ما يصفه خبراء الإعلام والقانون الدولي بـ”أكبر مذبحة للصحفيين في صراع معاصر”.

 

اغتيال الحقيقة قبل الأشخاص

 

الصحافة، في جميع المواثيق الدولية، ليست طرفًا في الصراع المسلح، بل أداة لنقل الحقيقة ومراقبة الانتهاكات.. لكن في غزة، يتحول الصحفي إلى هدف عسكري مباشر.. استهداف الصحفيين ليس مجرد قتل أفراد، بل محاولة لاغتيال الحقيقة نفسها.

الصحفيون في غزة يعملون في بيئة هي الأكثر خطورة في العالم، حيث القصف العشوائي، وانقطاع الكهرباء، وانهيار شبكات الاتصال، ونقص الموارد الأساسية، إضافة إلى الخطر المباشر من الطائرات الحربية “الإسرائيلية” التي لم تتردد في قصف مكاتب إعلامية، سيارات إسعاف، وحتى منازل صحفيين وعائلاتهم.

تاريخيًا، وثقت منظمات دولية مثل “مراسلون بلا حدود” و”لجنة حماية الصحفيين” أن الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسة استهداف متعمدة ضد الإعلاميين الفلسطينيين.. هذا الاستهداف لا يتم فقط عبر القتل، بل يشمل الاعتقال، المنع من التغطية، مصادرة المعدات، وفرض قيود على الحركة.

وفي العدوان الحالي على غزة، اتخذت هذه السياسة شكلًا أكثر وحشية، إذ جرى قصف مواقع معروفة بأنها تستخدم كمراكز عمل للصحفيين، رغم علم الاحتلال المسبق بوجودهم، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب بموجب اتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف المدنيين والعاملين في المجال الإنساني والإعلامي.

 

ردود فعل دولية باهتة

 

رغم أن جريمة استهداف الصحفيين في مستشفى الشفاء أثارت موجة إدانة من مؤسسات إعلامية وحقوقية، فإن المواقف الرسمية الدولية جاءت باهتة ومحدودة التأثير.

المكتب الإعلامي الحكومي في غزة دعا الاتحاد الدولي للصحفيين، واتحاد الصحفيين العرب، وكافة الهيئات الصحفية، إلى اتخاذ موقف حاسم، إلا أن الاستجابة بقيت في إطار البيانات المكتوبة، دون أي تحرك عملي على الأرض.

حتى الآن، لم يتم الإعلان عن أي خطوات ملموسة لمحاسبة الاحتلال على جرائمه ضد الصحفيين، وهو ما يثير تساؤلات حول جدية المجتمع الدولي في حماية حرية الإعلام، خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين.

 

التواطؤ الدولي

 

المأساة تتعمق عندما نضع في الحسبان الدعم السياسي والعسكري الذي تقدمه دول غربية كبرى، مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، وفرنسا، لكيان الاحتلال.

هذا الدعم لا يوفر فقط السلاح الذي يُستخدم في قتل المدنيين والصحفيين، بل يمنح الاحتلال حصانة سياسية أمام أي مساءلة دولية.

مؤسات حقوقية دولية وخبراء في القانون الدولي يرون أن هذا الدعم يمكن أن يُعتبر مشاركة غير مباشرة في الجرائم، ما يستوجب أيضًا مساءلة هذه الدول أمام المحاكم الدولية، خاصة وأنها على علم بالانتهاكات المستمرة ضد الصحفيين في غزة.

المنظمات الحقوقية، بينها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، أكدت أن ما يجري في غزة يتجاوز إطار “الأحداث العرضية” ليصل إلى مستوى الجرائم الممنهجة.

العفو الدولية دعت إلى فتح تحقيق مستقل ونزيه في مقتل الصحفيين الفلسطينيين، مع تعويض عائلات الضحايا وضمان عدم إفلات الجناة من العقاب.

المكتب الإعلامي الحكومي في غزة شدد على ضرورة تحرك المؤسسات المعنية بحرية الصحافة، وتكثيف الجهود القانونية لرفع دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، بهدف محاسبة قادة الاحتلال على هذه الجرائم.

ورغم المخاطر الهائلة، يواصل الصحفيون الفلسطينيون العمل على الأرض، مدفوعين بشعور عميق بالمسؤولية تجاه شعبهم والعالم.. شهادات زملاء الشهيد أنس الشريف تؤكد أنه كان يرفض مغادرة موقع التغطية حتى في ذروة القصف، إيمانًا منه بأن الصورة والكلمة قد تنقذ حياة، أو تكشف جريمة.

هذه الروح القتالية في العمل الصحفي جعلت من الإعلام الفلسطيني “خط الدفاع الأخير” عن رواية الفلسطينيين أمام الرواية “الإسرائيلية” المدعومة بآلة دعاية عالمية ضخمة.

 

الإبادة الجماعية والنظام الدولي

 

وفق إحصاءات رسمية، فإن عدد الصحفيين الذين استشهدوا في العدوان على غزة يفوق أي صراع آخر في العقود الأخيرة، حتى في مناطق الحروب الكبرى كسوريا والعراق وأفغانستان. الرقم – 267 شهيدًا – ليس مجرد إحصائية، بل دليل دامغ على أن الاستهداف منهجي ومقصود.

هذه الأرقام، إضافة إلى شهادات الناجين، تضع الاحتلال في مواجهة اتهامات بارتكاب إبادة جماعية، حيث لا يقتصر القتل على المدنيين والمقاتلين، بل يشمل من يفترض أنهم محميون بموجب القانون الدولي، مثل الصحفيين والعاملين في المجال الطبي.

القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، ينص على حماية الصحفيين في مناطق النزاع، باعتبارهم مدنيين. لكن في حالة غزة، يبدو أن هذه النصوص تبقى حبرًا على ورق.

الأمم المتحدة ومجلس الأمن فشلا حتى الآن في إصدار قرار ملزم يوقف استهداف الصحفيين أو يحقق في الجرائم بحقهم، وهو ما يثير الشكوك حول فعالية النظام الدولي في حماية العاملين بالإعلام، خاصة في النزاعات التي تكون فيها أطراف مدعومة من قوى كبرى.

 

بين العدوان والمقاومة الإعلامية

 

رغم كل هذا القتل، فإن الإعلام الفلسطيني لم يتوقف عن العمل.. هناك إصرار على نقل المأساة للعالم، حتى لو كان الثمن حياة الصحفي نفسه.. في مشهد مأساوي – بطولي، يتحول الميكروفون والكاميرا إلى سلاح مقاومة موازٍ لسلاح الميدان.

الشهيد أنس الشريف لم يكن استثناءً، بل مثالًا لصحفيين كُثر يدركون أن موتهم قد يعني حياة لآخرين، لأن ما يوثقونه قد يكون دليلاً في محكمة دولية، أو شاهدًا على جرائم لا تسقط بالتقادم.

وعليه يمكننا القول، استهداف الصحفيين في غزة ليس حادثًا عرضيًا، بل جريمة ممنهجة تدخل في إطار سياسة الاحتلال لإسكات الحقيقة وحرمان العالم من معرفة ما يجري على الأرض، استمرار هذا الاستهداف، وسط صمت دولي وتواطؤ بعض القوى الكبرى، يجعل من هذه الجرائم اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام المجتمع الدولي بمبادئ حرية الصحافة وحقوق الإنسان.

لكن، وبينما تتعثر العدالة الدولية، يظل الصحفيون الفلسطينيون على الأرض، يكتبون بدمهم شهادة للتاريخ، مؤكدين أن الحقيقة – مهما كانت مكلفة – لا يمكن قتلها.

قد يعجبك ايضا