المصدر الأول لاخبار اليمن

مأزق “إسرائيل” وحرج واشنطن… صنعاء تفرض معادلة ردع جديدة في الإقليم

صنعاء | وكالة الصحافة اليمنية

تتضافر مؤشرات متسارعة لتكشف عن تعقيدات المأزق العسكري والسياسي الذي يواجه كيان الاحتلال الإسرائيلي في ساحة الصراع مع اليمن، وسط محاولة أميركية حذرة للابتعاد عن أي انخراط مباشر قد يزيد من تعقيد المشهد، ويورطها في معركة خسرتها سابقًا.

منذ اندلاع العدوان على قطاع غزة في أكتوبر 2023، تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة مفتوحة لم تكن في حسابات واشنطن والاحتلال الإسرائيلي بالقدر الكافي، إذ وجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه أمام جبهة جديدة ومعقدة تفتحها صنعاء من جنوب غرب آسيا. جبهة لا تعتمد على المواجهة المباشرة بقدر ما تقوم على معركة الممرات البحرية وفرض حصار استراتيجي خانق على الموانئ والمطارات “الإسرائيلية”.

وفي ظل هذا الواقع، بدا أن الولايات المتحدة نفسها باتت تمشي على حبل سيرك مشدود، حذرة من الانزلاق إلى مواجهة جديدة مع قوات صنعاء التي كبدتها خسائر فادحة في معركة البحر الأحمر قبل شهور.

هذا ما كشفه موقع “المونيتور” الأميركي عندما أشار بوضوح إلى أن البنتاغون لم يقدّم أي دعم استخباراتي أو لوجستي للهجوم الإسرائيلي الأخير الذي استهدف منشأة حزيز الكهربائية جنوب العاصمة صنعاء، بل ترك الاحتلال الإسرائيلي يواجه مأزقه منفردة.

مسؤول أميركي أوضح أن واشنطن “لا تريد منح صنعاء ذريعة للتراجع عن وقف إطلاق النار معها”، وهو تصريح يختصر الكثير من الحسابات الدقيقة التي تراعيها الإدارة الأميركية في هذا الملف الشائك.

 

تجنّب التورط المباشر

يشير الموقف الأميركي الأخير بجملة من الحقائق، أولها أن الولايات المتحدة، رغم انخراطها في اعتراض الصواريخ والمسيّرات المتجهة نحو الاحتلال الإسرائيلي عبر سفنها المنتشرة في البحر الأحمر، تحرص على أن تبقى مشاركتها “دفاعية” لا هجومية، خاصة بعد الخسائر التي تكبدتها في الهجوم الأخير على اليمن.

ثانيها أن واشنطن تدرك أن أي انخراط مباشر سيُنظر إليه كعدوان أميركي جديد على اليمن، ما قد يفجّر موجة عمليات أكبر تستهدف مصالحها في البحر الأحمر والخليج العربي، وهذا ما عبّر عنه المسؤول الأميركي للموقع الأمريكي حين أكد أن بلاده لا ترغب في إعطاء اليمنيين “ذريعة” لتوسيع نطاق المواجهة.

لكن الأهم أن موقف البنتاغون يعكس إدراكًا ضمنيًا لنجاح قوات صنعاء في فرض معادلة استراتيجية صعبة، جعلت من أي مشاركة عسكرية أميركية مباشرة خطوة محفوفة بالمخاطر، سواء من حيث التكلفة أو النتائج.

 

“إسرائيل” في مأزق

على الجانب الآخر، تبدو “إسرائيل” محاصرة بخيارات محدودة ومرهقة، فبحسب ما كشفته مجلة “The Maritime Executive” الأميركية المتخصصة في الشؤون البحرية، فإن حكومة الاحتلال تراجعت عن استخدام سلاح الطائرات المسيّرة لضرب أهداف في اليمن، وهو خيار كان من المفترض أن يكون الأقل تكلفة والأكثر مرونة في مثل هذه العمليات.

لكن هذا الخيار سقط عمليًا من الحسابات بعد فشل التجارب الأميركية السابقة في اليمن، حيث تمكنت الدفاعات الجوية اليمنية من إسقاط عشرات المسيّرات المتطورة، بينها أكثر من عشرين طائرة من طراز “إم كيو 9″، وهي من الأكثر تقدمًا في الترسانة الأميركية.

هذا الواقع جعل الاحتلال الإسرائيلي يدرك أن اعتماده على مسيّراته لن يكون إلا مغامرة غير محسوبة، قد تنتهي بفقدان أسلحة باهظة الثمن وتسجيل إخفاقات علنية جديدة.

وبغياب خيار المسيّرات، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى بدائل أكثر كلفة وأعلى مخاطرة.. إطلاق صواريخ من بوارج حربية على مسافات بعيدة، أو تسيير أسراب من المقاتلات التي تضطر لقطع أكثر من ألفي كيلومتر للوصول إلى الأجواء اليمنية.

وهو ما يضع على كاهل جيش الاحتلال الإسرائيلي أعباء لوجستية وعسكرية واقتصادية هائلة، في وقت يعيش فيه أصلًا استنزافًا متواصلاً على أكثر من جبهة.

 

مأزق الاحتلال وحرج واشنطن

الأهم في هذا المشهد أن معركة البحر الأحمر لم تعد مجرد مواجهة محدودة، بل أصبحت ساحة اختبار حقيقية لمعادلات الردع الإقليمي.

فنجاح قوات صنعاء في فرض حصار بحري على الاحتلال الإسرائيلي – كما أقر به مسؤول أميركي في حديثه لـ”المونيتور” – يعني أن واحدًا من أهم الممرات التجارية في العالم بات خارج نطاق الاحتلال، وأن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد قادراً على ضمان خطوط إمداده البحرية الحيوية.

هذا التطور له أبعاد تتجاوز الاحتلال الإسرائيلي، فواشنطن، التي تقود تحالفًا دوليًا لحماية الملاحة في البحر الأحمر، تجد نفسها أمام معضلة، فكلما تورطت أكثر في اعتراض الهجمات اليمنية، ازداد خطر استهداف قواتها ومصالحها، وكلما نأت بنفسها عن المواجهة، ازداد الضغط على الاحتلال الإسرائيلي الذي يبدو عاجزًا عن التعامل منفرداً مع هذا التهديد.

 

خيارات وموازين

ما تكشفه الوقائع على الأرض هو أن الاحتلال الإسرائيلي يواجه معادلة “الخيار المستحيل”، فالمسيّرات لم تعد خيارًا مطروحًا بعد أن أثبت اليمنيون قدرتهم على إسقاطها، كما أن الصواريخ بعيدة المدى من البوارج مكلفة اقتصاديًا وذات نتائج محدودة، فضلاً عن أن المقاتلات تستهلك وقتًا وجهدًا ومسافات طويلة، وتعرض الطيارين لمخاطر عالية.

في المقابل، يواصل اليمن تعزيز قدراته الدفاعية والهجومية، ما يجعل كل خيار الاحتلال الإسرائيلي محاطًا بالشكوك، ومع كل عملية فاشلة أو مكلفة، يتكرس الانطباع بأن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد قادرًا على فرض معادلات القوة كما في السابق.

بين واشنطن التي تحاول إدارة “توازن صعب” لتفادي عودة الموجهة المباشرة، والاحتلال الإسرائيلي الذي يعاني من تضييق الخيارات وارتفاع التكلفة، يبرز واقع جديد مفاده أن الدفاعات اليمنية استطاعت فرض معادلة ردع حقيقية في البحر الأحمر والمجال الجوي، ما جعل كلفة استهداف اليمن بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي عالية المخاطر عسكريًا واقتصاديًا.

كما أن امتناع واشنطن عن توفير غطاء مباشر لعدوان الاحتلال الإسرائيلي الأخير يؤشر إلى أن صنعاء باتت لاعباً قادراً على تغيير حسابات القوى الكبرى، وفرض إيقاع ميداني وسياسي لا يمكن تجاوزه بسهولة.

ويمكننا القول، إن معركة البحر الأحمر لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحولت إلى صراع استراتيجي على طرق التجارة العالمية ومعابر الطاقة، ونجاح صنعاء في فرض حصار مؤثر على الاحتلال الإسرائيلي هو مؤشر على أن موازين القوى في المنطقة آخذة في التحول، وأن الأطراف الكبرى – بما فيها واشنطن – باتت مجبرة على إعادة النظر في حساباتها.

وفي الوقت الذي يتواصل فيه العدوان على غزة، يبدو أن الجبهة اليمنية ستبقى عامل ضغط متزايد على الاحتلال الإسرائيلي وحليفته الولايات المتحدة، ليس فقط عسكريًا، بل اقتصاديًا واستراتيجيًا، في معركة قد تتجاوز مخاطرها حدود الإقليم لتلامس مصالح العالم بأسره.

 

 

قد يعجبك ايضا