خطاب يقلب الموازين.. الإسناد اليمني يكسر معادلة الاستباحة ويشعل جبهة الردع
صنعاء | وكالة الصحافة اليمنية
لم يكن خطاب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي الأخير حول مستجدات العدوان على قطاع غزة حدثًا اعتياديًا في سياق المواقف السياسية التضامنية مع الشعب الفلسطيني في غزة، بل حمل مضامين تتجاوز الخطاب المباشر إلى رؤية سياسية واستراتيجية تؤطر لفهم أعمق لما يسميه بـ”معادلة الاستباحة” الصهيونية، التي تتجاوز حدود فلسطين لتطال كل المنطقة، من لبنان وسوريا إلى قطر واليمن.
هذا الخطاب، بما تضمنه من معطيات وأرقام وتوصيفات دقيقة، يضع أمام الرأي العام العربي والدولي صورة أوضح عن طبيعة الجرائم المستمرة في غزة منذ أكثر من 703 أيام، التي لم تعد حدثًا فلسطينيًا معزولًا، بل أصبحت مختبرًا عمليًا لمشروع إبادة ممنهج يطال الإعلاميين والمدنيين على السواء، في غزة كما في صنعاء، ويكشف كيف تحولت اليمن من متضامن سياسي إلى لاعب ميداني قلب حسابات العدو، فدفع ثمن ذلك مجازر جديدة في صنعاء.
غزة.. مسرح الإبادة الممنهجة
أكد السيد عبدالملك الحوثي أن الاحتلال الإسرائيلي ارتكب على مدى أكثر من 703 أيام متواصلة جريمة القرن في غزة، مستعرضًا أرقامًا صادمة تكفي لرسم صورة كارثية: أكثر من 20 ألف طفل و12 ألفًا و500 امرأة شهيدة، فيما دُمِّر 90% من العمران.
لم تقتصر الجريمة على القتل المباشر، بل اتخذت شكل إبادة مركبة عبر التجويع والتعطيش، بحسب ما وثقته الأمم المتحدة بوضوح في إعلانها للمجاعة في غزة.
مشاهد الأطفال الذين يموتون جوعًا، والأهالي الباحثين عن جرعة ماء أو كسرة خبز في مصائد موت منصوبة مسبقًا، هي الوجه الأكثر فداحة لهذه الكارثة الإنسانية، الاحتلال يتعمد استهداف المدنيين في طوابير الخبز وآبار المياه، لتتحول الحياة اليومية في غزة إلى مطاردة دائمة مع الموت.
يصف السيد الحوثي هذا المشهد بأنه “إجرام يومي متواصل”، حيث يُستهدف الباحثون عن الماء والخبز، كما يُهجّر مئات الآلاف قسرًا إلى مناطق ضيقة تُعلن آمنة زورًا ثم تُقصف لاحقًا، هذا النمط من “مصائد الموت” يعبّر عن منهجية صهيونية تتعمد نزع آخر مقومات الحياة.
لكن ما يجعل هذه الكارثة الإنسانية مختلفة، وفق خطاب السيد الحوثي، أنها لم تعد جريمة تُرتكب في الخفاء أو في لحظة عابرة، بل أصبحت “إجرامًا يوميًا متواصلًا وموثقًا بالصوت والصورة”، تشهده وسائل الإعلام العالمية وتوثقه المنظمات الأممية، ومع ذلك يبقى دون عقاب أو ردع.
وحدة الضحية والجريمة
الخطاب الذي ربط بوضوح بين ما يتعرض له المدنيون والصحفيون في غزة وما شهدته صنعاء مؤخرًا من استهداف منازل سكنية ومؤسسات إعلامية وصحفيين، قد أرسى معادلة جديدة: غزة ليست وحدها، فالقصف “الإسرائيلي” الذي طال صنعاء مؤخرًا باستهداف مؤسسات إعلامية وصحفيين، ليس حدثًا منفصلًا بل امتداد لذات الاستراتيجية، تكميم الصوت، محو الحقيقة، وتدمير البنية الإعلامية التي توثّق جرائم الاحتلال.
سقوط شهداء من الصحفيين اليمنيين والفلسطينيين في الغارات على مخيمات الصحفيين في غزة، ومقرات الصحف في صنعاء، لم يكن “خطأً عسكريًا”، بل كان رسالة متعمدة، تقول: كما يستهدف من يوثق الجرائم ووسائل التجويع في غزة، فإن صنعاء أصبحت هدفًا لإرهاب الإعلام، في محاولة لإسكات الصوت اليمني الداعم للمقاومة ومظلومية الشعب الفلسطيني.
وبذلك، يؤكد السيد الحوثي أن وحدة الجريمة تربط بين ضحايا غزة وضحايا صنعاء، وأن الاستهداف لم يعد مقصورًا على الأرض الفلسطينية بل تمدد إلى كل من يساندها، بهذا الربط، أراد السيد الحوثي القول إن صنعاء لم تُستهدف عرضًا، بل لأنها جزء من معركة إقليمية مفتوحة، حيث تُعاقب اليمن على انخراطها المباشر في معركة غزة.
مشروع صهيوني عابر للحدود
أحد أهم المفاهيم التي طرحها السيد عبدالملك الحوثي هو “معادلة الاستباحة”، الاحتلال يسعى إلى تكريس واقع جديد في المنطقة، عنوانه أن أي أرض عربية أو إسلامية قابلة للانتهاك بلا ثمن لا قداسة لأي سيادة ولا حصانة لأي بلد، وأن تكرار الجرائم سيجعلها اعتيادية.
الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، العدوان على قطر، الغارات على سوريا، كلها شواهد على تمدد هذه المعادلة.
هذه الاستباحة لا تقف عند حد الجغرافيا، بل تمتد إلى البعد النفسي والوجداني، من خلال محاولات الاحتلال الترويض النفسي للأمة، وتعويدها على رؤية مقدساتها تُداس دون رد فعل.
لكن الأخطر – كما يحذر السيد الحوثي – أن تتحول هذه الانتهاكات إلى مشاهد اعتيادية لا تستفز مشاعر الغضب، وهو “جزء من التكتيك الصهيوني لتدجين الأمة وتحويلها إلى كتلة خانعة لا يحرّكها شيء”.
الإسناد اليمني.. قلب الطاولة على العدو
في مقابل هذه المعادلة، برز الدور اليمني بوصفه كاسرًا لها، الخطاب أوضح أن الإسناد اليمني للشعب الفلسطيني لم يعد مجرد دعم معنوي أو تضامن سياسي، بل تحول إلى عمليات عسكرية مباشرة أربكت حسابات العدو.
خلال أسبوعين فقط، نفذ سلاح الجو المسير والقوة الصاروخية اليمنية 38 عملية، بينها 23 طائرة مسيرة استهدفت مواقع عسكرية حساسة في يافا وأسدود وعسقلان والنقب، إضافة إلى مطاري رامون واللد، فضلاً عن عمليتين ضد سفينتين تجاريتين “إسرائيليتين” في البحر الأحمر.
هذا “الإسناد اليمني” قلب معادلة المنطقة: فبدل أن تبقى غزة وحيدة في مواجهة آلة الحرب، أصبح الاحتلال الإسرائيلي يخوض حرب استنزاف متعددة الجبهات، ومع ذلك، يؤكد السيد الحوثي أن المجازر في صنعاء لن تكسر إرادة اليمنيين، بل ستزيدهم ثباتًا.
النتيجة المباشرة لهذا الإسناد – كما يقرأها الخطاب – لم تكن رمزية، بل استراتيجية، إذ دفعت العدو إلى توسيع بنك استهدافه لتشمل صنعاء عقابًا على إسنادها الميداني لغزة، عبر مجازر جديدة بحق المدنيين والإعلاميين، لكن بدلاً من أن تضعف اليمن، فإن هذه الجرائم زادت من التماسك الداخلي وعززت القناعة بأن التضحيات واجبة في معركة “الفتح الموعود”.
هكذا، تتقاطع دماء الأطفال والصحفيين في غزة مع دماء الأطفال والصحفيين في صنعاء، في مشهد يكشف أن المعركة واحدة، وأن كسر الاستباحة لا يكون إلا بالمقاومة والإسناد المتبادل، لا بالرهان على بيانات الشجب ولا على سراب السلام الأمريكي.
التواطؤ الدولي.. واستراتيجية البيانات
أحد أكثر جوانب الخطاب إثارة للنقاش هو نقده الحاد للمواقف الدولية والعربية، السيد عبدالملك الحوثي وصف الاكتفاء بالبيانات بأنه “استراتيجية غبية”، إذ لم تقدم أي دولة عربية من دول التطبيع على قطع علاقاتها بالكيان رغم المجازر، ولم تُتخذ أي خطوات عملية لردع الاحتلال.
في المقابل، يكشف الخطاب أن الدعم الأمريكي للمشروع الصهيوني ليس مجرد انحياز سياسي، بل التزام عقائدي الأمريكيون يعتبرون إبادة أمتنا وتمكين “إسرائيل الكبرى” مهمة مقدسة، يقول السيد الحوثي، في توصيف يضع الصراع في إطاره الأوسع: مواجهة بين مشروع تدميري عقائدي مدعوم دوليًا، وشعوب مستباحة تُراد لها الهزيمة النفسية قبل العسكرية.
معركة كسر الاستباحة
تحليل مضامين الخطاب يفضي إلى خلاصة محورية: المعركة اليوم لم تعد معركة جغرافيا محدودة، بل صراع على “معادلة الاستباحة”، إذا قبلت الأمة بهذه المعادلة، فستكون كل عاصمة وكل أرض مباحة للاحتلال، أما إذا قاومتها، فإنها تفتح الباب لمعكوسها: معادلة الردع.
هذا الربط يعزز قناعة أن معركة غزة لم تعد قضية فلسطينية صرفة، بل قضية إقليمية تتشارك فيها عدة شعوب، وبذلك، يفتح الخطاب الباب أمام صياغة معادلة جديدة: إذا كان الاحتلال يسعى لتوسيع الاستباحة، فإن المقاومة تسعى لتوسيع الإسناد.
وحدة الدم والمصير
وعلى ما يبدو أن خطاب الحوثي سعى إلى ربط معاناة غزة بما يجري في اليمن، ليس على مستوى الشعارات فقط، بل من خلال وحدة حقيقية في الاستهداف والمعاناة، المدنيون والصحفيون في غزة يموتون تحت القصف ويموتون جوعًا تحت الحصار، فيما يسقط المدنيون والصحفيون في صنعاء تحت القصف، وفي الحالتين الجاني واحد: “العدو الإسرائيلي بغطائه الأمريكي”.
هذا التحليل يفضي إلى نتيجة محورية: المشروع الصهيوني، بغطائه الأمريكي، يعمل على “استباحة شاملة” للمنطقة، تبدأ من غزة لكنها لا تنتهي عندها، غير أن خطاب الحوثي أظهر أن هذه الاستباحة لم تعد بلا كلفة، إذ أن اليمن، بتضحياته، وضع حدًا للمعادلة القديمة.
اليمن، بحسب ما يكشفه الخطاب، قرر أن يكون في موقع الفعل لا رد الفعل، تضحياته ليست خيارًا تكميليًا، بل واجبًا إيمانيًا وأخلاقيًا، ومن هنا فإن المجازر في صنعاء ليست إلا ثمنًا طبيعيًا لموقف اختار أن يكون في قلب المعركة لا على هامشها.
ختاماً يمكننا القول، إن خطاب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي الأخير يضع النقاط على الحروف: الاحتلال يسعى إلى مشروع استباحة شاملة، تبدأ من غزة لكنها لا تتوقف عندها، صنعاء، بيروت، دمشق، الدوحة، كلها في مرمى المشروع ذاته، لكن في المقابل، بدأت معادلة جديدة تتشكل، عنوانها الإسناد المتبادل وكسر الحصار النفسي.
بهذا المعنى، لم يعد السؤال: “إلى أين سيصل الاحتلال الإسرائيلي في استباحته؟”، بل: “إلى أي مدى ستتسع جبهة الإسناد لكسر هذه الاستباحة؟”.
والإجابة، كما يقول السيد الحوثي، تكمن في الجهاد والمقاومة، لا في بيانات الشجب ولا في سراب الرهان على واشنطن.