يسعى الاحتلال منذ أكثر من شهر لتفريغ غزة من سكانها وإجبارهم على الانتقال قسراً إلى جنوب القطاع، بهدف تدمير المدينة وفرض السيطرة العسكرية عليها. وخلال الأيام الماضية، ارتكب الاحتلال جرائم تدمير واسعة النطاق، شملت آلاف الأبراج والبنايات السكنية، بالإضافة إلى تدمير آلاف الخيام التي تؤوي النازحين.
في مقابل تصاعد عربدة العدوان الهمجي والإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي، يضرب أهالي غزة أروع صور الصمود، رافضين بشكل قاطع أوامر الإخلاء والتهجير القسري. هذه الرفض يتجسد في شعار “النزوح نحو السماء”، الذي يعبر عن إصرارهم على البقاء في مدينتهم المقدسة، التي ارتوت بدماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى.
نفي مزاعم الاحتلال
خرج أبناء غزة بالأكفان بكبيرهم وصغيرهم، بكوادرهم الطبية وكل القطاعات، بوجوه عشائرهم وكبرائهم، ببناتهم ونسائهم في مشهدٍ مهيبٍ يضيف حلقة من حلقات الصمود الأسطوري بوجه غطرسة المحتل وظلمه، وصرخة بوجه الصمت والتخاذل والتآمر العالمي: لن نرحل من هنا ولو ارتقت أرواحنا إلى السماء بحرب الإبادة.
“النزوح نحو السماء “، ليس مشهداً من فيلم وليست مقولة مبالغاً فيها؛ بل هي حروفٌ من صمودٍ رفعها أهالي غزة في وجه إجرام الاحتلال وإبادته الجماعية، معبرين عن رفضهم القاطع لكل أوامر الإخلاء والتهجير من مدينتهم المقدسة التي رووها بدماء عشرات آلاف الشهداء والجرحى منذ بدء العدوان الغاشم.
وحين تيقن الاحتلال وعجز عن الفت في عزيمة الصمود والتحدي لدى الأهالي المتجذرين في تراب غزة، لجأ إلى أكاذيبه وإشاعاته المعتادة التي لم تعد تنطلي على أهل القطاع الصامد، ففي محاولة يائسة للنيل من عزيمة الشعب الفلسطيني، بث الاحتلال مزاعم كاذبة حول تقدم شخصيات عامة في غزة بطلبات لمغادرة القطاع. وقد تم تكذيب هذه الادعاءات جملة وتفصيلاً من قبل الدكتور محمد المدهون، عميد المدعون، والمهندس إسماعيل الأشقر، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني. وأكد كلاهما أن هذه الشائعات تأتي في سياق الحرب النفسية، وأن عائلاتهم باقية على أرض الوطن، متجذرة في تراب غزة، ولن تبرحها مهما اشتدت الظروف.
شواهد الصمود الأسطوري
وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي، لا يزال أكثر من مليون إنسان فلسطيني، بينهم أكثر من ثلث مليون طفل، ثابتين في مدينة غزة وشمالها، رافضين مخطط النزوح القسري نحو الجنوب. يبلغ عدد سكان غزة وشمالها أكثر من 1.3 مليون نسمة، وقد اضطر قرابة 300 ألف للنزوح من الأحياء الشرقية نحو وسط المدينة وغربها.
في غزة، أصبح النزوح الداخلي جزءاً من الحياة اليومية، حيث تتحول الطرقات إلى ساحات للنوم والانتظار. يواجه النازحون صعوبة بالغة في تأمين احتياجاتهم الأساسية، حيث يصل متوسط تكلفة النزوح من مدينة غزة نحو الجنوب إلى حوالي ألفي دولار، تشمل أجرة النقل وخيمة متواضعة ومرفقاً صحياً بدائياً. هذا الواقع يدفع الكثيرين للبقاء تحت القصف بدلاً من مواجهة رحلة نزوح لا طاقة لهم بها.
عراقة التاريخ الغزاوي
غزة، المدينة التي شهدت تعاقب الحضارات والممالك، تحمل اسماً ومعنى يعكس صمودها وعزتها. عرفت بأسماء متعددة عبر التاريخ، واحتضنت أئمة عظماء . موقعها الجغرافي الاستراتيجي جعلها عقدة تجارية وحضارية، وجعلها مطمعاً للإمبراطوريات عبر العصور.
منذ العصور القديمة، قاومت غزة الغزاة وحافظت على هويتها. في صدر الإسلام، كانت أول مدينة فلسطينية تُفتح على يد المسلمين، وأصبحت “غزة هاشم”. وعلى مر العصور الإسلامية، ازدهرت بالأسواق والمساجد، وكانت مركزاً للفقه والعلم.
بعد نكبة 1948، أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية، ثم احتلتها “إسرائيل” عام 1956. وبعد هزيمة يونيو 1967، وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي مجدداً، لتصبح ميداناً للمقاومة.
من رحم هذا الواقع، انفجرت انتفاضة الحجارة عام 1987، وأسست لظهور حركة حماس. ومع انتفاضة الأقصى عام 2000، أصبحت غزة مختبراً لأساليب مقاومة جديدة أجبرت الاحتلال على الانسحاب منها عام 2005، لكنها ظلت تحت الحصار.
منذ انسحاب الاحتلال، تحولت غزة إلى ساحة حروب إسرائيلية عدوانية متكررة، دفعت خلالها ثمناً باهظاً من دماء أبنائها وبنيتها التحتية. ورغم الدمار، يظل سوق غزة الشعبي وأزقتها ومساجدها شاهدة على حيوية المدينة ورمز لمقاومة لا تهدأ.
غزة.. ذاكرة لا تُمحى
تقف غزة، الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، اليوم كأحد أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، حيث يقطنها أكثر من مليوني إنسان على مساحة لا تتجاوز 365 كيلومتراً مربعاً. لم تكن هذه الكثافة مجرد أرقام، بل كانت نتاجاً لواقع تاريخي معقد، حيث استقبل القطاع عشرات الآلاف من اللاجئين بعد نكبة عام 1948، وضمّتهم أحياء مثل الشجاعية، الرمال، التفاح، والزيتون، التي تحولت بمرور الزمن إلى أيقونات للمقاومة.
وعلى مرّ التاريخ، لم تُكن هذه الأحياء مجرد تقسيمات عمرانية، بل كانت مساحات حية للصمود، شاهدة على بطولات وتضحيات جسام. ففي انتفاضة الحجارة عام 1987، تحولت الشجاعية إلى ساحة مواجهة لا تُنسى، أظهرت مدى عمق التجذر الفلسطيني في أرضه، وأرعبت جيش الاحتلال الإسرائيلي.
هذا التاريخ المتراكم من المقاومة لم يكن وليد الصدفة، بل هو تجسيد لذاكرة شعبية حية رفضت التنازل عن حقها في الوجود. هذا ما جعل غزة هدفاً خاصاً في أجندة الكيان الإسرائيلي، حتى أن إسحاق رابين، أحد قادة الاحتلال، تمنى يوماً أن “يستيقظ ليجد البحر قد ابتلعها”. لكن البحر لم يبتلع غزة، بل بقيت كما وصفها المؤرخ عارف العارف: “صخرة صلبة، عصية على الذوبان، ومفتاحاً لفهم الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”.
في هذه اللحظة، والتي تتواصل فيها جرائم حرب الإبادة الجماعية، لا تزال غزة تثبت هذه الحقيقة. فكل قنبلة، وكل منزل مهدم، وكل نزوح قسري لا يزيد أهلها إلا إصراراً على التمسك بأرضهم. هم لا يقاتلون من أجل البقاء فقط، بل يقاتلون من أجل استعادة التاريخ، وإثبات أن هذه الأرض هي ذاكرة وهوية لا يمكن محوها. غزة اليوم لم تعد قضية سياسية فحسب، وإنما رمز للإرادة التي لا تُقهر في وجه الاحتلال، وعار في جبين الصمت الدولي والتخاذل العربي، ونداء إلى الإنسانية بأن الحق لا يمكن أن يُدفن تحت الأنقاض.