العدوان على غزة… “أطباء بلا حدود” تصف أوامر الإخلاء الاسرائيلية بـ “أحكام الإعدام”!!
جنيف | وكالة الصحافة اليمنية
مع كل توسّع للهجوم البري الذي يشنه جيش الاحتلال الإسرائيلي، يتفاقم الضغط بشكل مباشر على السكان المدنيين والمنشآت الصحية في قطاع غزة. في هذا السياق، وصفت منظمة “أطباء بلا حدود” الدولية أوامر الإخلاء المتكررة والواسعة النطاق الصادرة عن سلطات الاحتلال بأنها “أحكام بالإعدام” بحق الفئات الأكثر ضعفاً، مثل كبار السن، والمرضى، والحوامل، والجرحى الذين لا يستطيعون الحركة. عمليات الهروب القسري غالباً ما تتم تحت وطأة القصف، ومَن ينجو يجد نفسه محشوراً في مناطق مكتظة تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية.
النزوح المتكرر… دائرة المعاناة
بالتوازي مع ذلك، أكدت رئيسة المكتب الإعلامي الإقليمي لمنظمة “أطباء بلا حدود”، إيناس أبو خلف، أن المرافق الطبية تتعرض لضغط “هائل”، حيث تجاوزت نسب الإشغال قدراتها الاستيعابية بأضعاف، واضطر بعضها للإغلاق إما بسبب القصف المباشر أو نتيجة نفاد الوقود الحرج.
في نداءات متكررة تناقلتها وسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي، أشارت أبو خلف إلى أن طواقم المنظمة أبرزت، من خلال مشاهداتها الميدانية، حجم المأساة الإنسانية التي تسبب بها النزوح المتكرر. وصفت الأوضاع بأنها “بالغة القسوة”، حيث تضطر عائلات بأكملها إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى دون أن تتمكّن من العثور على مأوى آمن أو مستقر. ونتيجة لذلك، تشهد أماكن اللجوء المؤقتة اكتظاظاً شديداً، في ظل غياب مقومات الحياة الأساسية من مياه نظيفة وخدمات صحية ملائمة.
ولفتت الفرق الطبية إلى رصد انتشار واسع لأمراض مرتبطة بسوء الصرف الصحي والاكتظاظ، مثل الأمراض الجلدية والتهابات الجهاز التنفسي، وهو ما يهدّد بظهور أوبئة أوسع نطاقاً إذا استمر الوضع على حاله، وفق تحذيرات المنظمة.
الأمر يتجاوز فقدان المأوى والاستقرار، فبحسب المكتب الإعلامي للمنظمة، يؤدي النزوح المتكرر أيضاً إلى انقطاع العلاجات الدوائية، ولا سيما أدوية الأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم، الأمر الذي يفاقم الحالة الصحية للمرضى ويجعلهم عرضة لمضاعفات خطيرة، ما يزيد من تدهور الوضع الصحي العام.
المرافق الصحية.. ضغط خانق
في حقيقة الأمر، لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة. النزوح لا يعني الوصول إلى ملاذ يحمي المدنيين، بل غالباً ما يكون مجرد انتقال من خطر مباشر إلى آخر. المناطق التي يصفها الكيان الإسرائيلي بـ”الإنسانية” أو التي تحددها كمناطق للإخلاء لم تثبت أنها توفر الحماية؛ إذ تعرض كثير منها للقصف أو تحوّلت بسبب الاكتظاظ إلى بؤر جديدة للمعاناة الإنسانية.
المدنيون يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة من التنقل المستمر بحثاً عن الحد الأدنى من الأمان، لكنهم لا يواجهون سوى واقع قاسٍ يفاقم صدماتهم النفسية ويتركهم في حالة من العجز التام عن إيجاد مخرج حقيقي من دوامة العنف والدمار.
المنشآت الصحية القليلة التي ما زالت قيد العمل في غزة باتت تواجه ضغطاً خانقاً يفوق قدراتها بكثير، نتيجة موجات النزوح المتزايدة. فالمستشفيات تستقبل أعداداً من المرضى والمصابين تفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف، في وقت تعاني فيه من نقص حاد في الأدوية الأساسية، والكوادر الطبية، والوقود اللازم لتشغيل المولدات وأجهزة العناية. وتشير البيانات إلى أن بعض المستشفيات الكبرى تجاوزت طاقتها بنسبة تتراوح بين 200 و300%، ما يجعلها عاجزة عن التعامل مع التدفق المستمر للحالات الحرجة. هذا الاكتظاظ الهائل يؤدي إلى تأخيرات طويلة في إجراء العمليات الجراحية الطارئة، ومعالجة المرضى على الأرض أو في الممرات، ما يشكل خطراً مباشراً على حياة الآلاف.
ووصفت “أطباء بلا حدود” ما يُعرف بـ”الممرات الإنسانية” و”الهدن المؤقتة” التي تعلنها سلطات الاحتلال بأنها غير فعالة؛ إذ لا توفر الأمان المطلوب ولا تضمن وصول المساعدات بشكل حقيقي. وشددت المنظمة على أن الممرات كانت في أحيان كثيرة تحت القصف أو شديدة الخطورة، فيما لم تكن “الهدن المؤقتة” سوى توقف قصير للقصف يتبعه استئناف أعنف. وتؤكد المنظمة أن المطلوب ليس نوافذ إنسانية محدودة، بل وقف إطلاق نار شامل ومستدام.
الإبادة الجماعية.. ممنهجة
يستند توصيف “أطباء بلا حدود” للوضع إلى نمط متكرر وواسع من الهجمات الممنهجة التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية الصحية على نحو مباشر، إلى جانب سياسات الحصار والتجويع المتعمد التي تُمارَس بحق سكان غزة. وتؤكد المنظمة أن هذه الممارسات تتوافق مع العناصر الأساسية لتعريف “الإبادة الجماعية” الوارد في القانون الدولي، حيث تشمل الأفعال الهادفة إلى التدمير الجزئي أو الكلي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية.
وفي هذا الإطار، استشهدت المنظمة بقرارات محكمة العدل الدولية التي ألزمت الكيان الإسرائيلي باتخاذ تدابير لمنع وقوع إبادة جماعية. ويعزز استمرار هذه الأفعال رغم صدور تلك الأوامر القضائية توصيف المنظمة لما يجري في غزة باعتباره “إبادة ممنهجة” تتجاوز حدود الكارثة الإنسانية التقليدية.
في الوقت ذاته، يظهر الواقع الميداني انعدام الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات والمولدات، ما أدى إلى توقف أجهزة التنفس الصناعي وحضّانات الأطفال. كما أن الغذاء يصل بشكل متقطع وبكميات غير كافية، وأحياناً يتحول توزيع المساعدات إلى موقع استهداف مباشر، حيث قُتل وأصيب العشرات في طوابير الحصول على الطعام. هذا الوضع يؤدي إلى سوء تغذية متفاقم، وانتشار أمراض مرتبطة بالمياه الملوثة، وتزايد معدلات وفيات الأطفال والمرضى المزمنين.
نداء الأطباء للعالم
في رسالة ذات دلالة عميقة، نظّم مكتب منظمة “أطباء بلا حدود” في الأردن مؤخراً وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني والعاملين في المنظمة داخل غزة تحت شعار: “لا يستطيع الأطباء إيقاف الإبادة.. قادة العالم يستطيعون”. وتؤكد المنظمة أن دورها الأساسي هو تقديم الرعاية الطبية، لكنها أطلقت بالفعل حملة عالمية تحت هذا الشعار لتسليط الضوء على عجز العمل الطبي وحده عن إيقاف الإبادة، في الوقت الذي نظمت فيه مكاتبها الإقليمية والدولية وقفات مماثلة.
يوجه الشعار رسالة مباشرة إلى الحكومات وصانعي القرار بأن دور الأطباء يقتصر على إنقاذ الأرواح ومعالجة الجرحى، لكن وقف الإبادة يتطلب قراراً سياسياً. إنه تأكيد على أن ما يجري ليس مجرد أزمة إنسانية، بل إبادة جماعية لا يمكن معالجتها إلا عبر ضغط سياسي وقرارات مُلزمة توقف القتل والحصار.
توثيق الانتهاكات
وثقت منظمة “أطباء بلا حدود” سلسلة واسعة من الانتهاكات التي تعرّضت لها منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، حيث لم يسلم العاملون ولا المرافق المرتبطة بها من الاستهداف المباشر. فقد قُتل عدد من موظفيها أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني، كما تعرّضت مرافق طبية وسيارات إسعاف تابعة للمنظمة أو مرتبطة بها للقصف، في خرق فاضح لقواعد القانون الدولي الإنساني.
سجّلت فرق المنظمة أيضاً حوادث اقتحام متكررة وتهديدات مباشرة للكوادر الطبية، وهو ما اعتبرته المنظمة دليلاً على وجود استهداف ممنهج للعمل الطبي والإنساني في القطاع. ومنذ اندلاع الحرب، فقدت “أطباء بلا حدود” 13 من زملائها في غزة، فيما ما يزال جراح العظام في المنظمة، الدكتور محمد عبيد، رهن الاعتقال لدى الكيان الإسرائيلي منذ أكتوبر 2024، في واقعة تثير قلقاً بالغاً حول سلامة الكوادر الطبية العاملة في ظروف بالغة الخطورة.
الاعترافات لا توقف الإبادة
ترى منظمة “أطباء بلا حدود” أن استمرار تدفق الدعم العسكري والسياسي الأمريكي والغربي لـلإسرائيلي يمنح الكيان حصانة شبه مطلقة من المساءلة الدولية، الأمر الذي يشجعها على مواصلة الهجمات ضد المدنيين والمرافق الطبية دون خوف من أي رادع قانوني أو أخلاقي. وتؤكد المنظمة أن وقف توريد الأسلحة فوراً يُعد شرطاً أساسياً لمنع المزيد من قتل وتشويه المدنيين، ولإتاحة المجال أمام الطواقم الطبية والإغاثية للقيام بمهامها الإنسانية في بيئة أكثر أمناً.
وفيما يتعلق بالاعترافات السياسية، تؤكد المنظمة أن المواقف الدولية، رغم تعددها، لم تُترجم حتى الآن إلى إجراءات عملية قادرة على وقف الهجمات أو فرض حماية حقيقية للمدنيين. وتشدد على أن البيانات الدبلوماسية أو الاعترافات الرمزية، مهما كانت أهميتها، لن توقف الإبادة الجماعية الجارية ما لم تقترن بضغوط جدية وحقيقية وإجراءات ملزمة تُفضي إلى وقف القصف، ورفع الحصار المفروض على غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق.
المطالب العاجلة لمنظمة “أطباء بلا حدود” لوقف الإبادة في غزة تبدأ بوقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، ووقف سياسات التطهير العرقي والتهجير القسري، وصولاً إلى ضمان وقف فوري ومستدام لإطلاق النار. كما تطالب بتمكين الإجلاء الطبي للمرضى العاجلين الذين يواجهون خطر الموت نتيجة انعدام العلاج، إضافة إلى الوقف الفوري لنقل الأسلحة التي تُستخدم يومياً في قتل وتشويه المدنيين، مؤكدة أن أي تأخير في هذه الإجراءات يعني استمرار الكارثة الإنسانية بلا هوادة.