استطاع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن يقدم للعالم خطة لليوم التالي في قطاع غزة أشبه بفرض صيغة استسلام متكاملة تحت غطاء براق، يروِّج لمشروع اقتصادي وسياحي “ضخم”. لقد تم تكييف هذه الخطة، التي وُصفت في بعض التقارير بأنها تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، حسب واشنطن بوست، بحيث تخدم مصالح أطراف متعددة على حساب الحقوق الفلسطينية الأساسية، ما يجعلها أقرب إلى بيع “وهم” الاستقرار والازدهار مقابل التنازل التام عن مقومات المقاومة والسيادة.
هندسة الخطة
يرتكز ترامب في خطته على إعادة تشكيل المشهد في غزة بشكل جذري، مستخدمًا لغة الإغراء والتهديد المبطن لفرض أجندته على جميع اللاعبين، مع تركيز واضح على تحقيق “صفر تهديدات” للكيان الإسرائيلي، لاسيما وأن الخطة تشكل طوق نجاة لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي يواجه مأزقًا سياسيًا وعسكريًا عميقًا؛ فمن جهة، قدَّمت الخطة آليات لإعادة الأسرى، وهو الهدف الأبرز لدى الرأي العام في كيان الاحتلال. ومن جهة ثانية، فإن جوهر الخطة يقوم على نزع سلاح المقاومة وتدمير بنيتها التحتية، وهي الغاية المعلنة للحرب الإبادة التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في القطاع.
الأكثر أهمية أن الخطة، رغم حديثها عن انسحاب مرحلي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، تتركه مفتوحًا وغير مقيد بسقف زمني واضح، وتمنح سلطات الاحتلال الحق في القيام بعمليات عسكرية متى شاءت لضمان عدم عودة التسلح، ما يضمن لها شرط البقاء والتدخل الأمني المطلق، وهو ما أكد عليه نتنياهو بقوله: “الجيش سيبقى في معظم أنحاء غزة”.
خيار صفري
تعتقد دول عربية وإقليمية – أيدت الخطة – أنها تتيح لها فرصة “الخروج بماء الوجه” من مأزق الصمت أو العجز أو التخاذل طوال عامين من الإبادة، من خلال تكليفها بمهمة الإشراف على نزع السلاح وإعادة الإعمار والتمويل عبر ما أُطلق عليه اسم “مجلس السلام” الذي يترأسه ترامب شخصيًا بمشاركة شخصيات دولية ذات علاقة قوية بالصهيونية العالمية، لكنه في الحقيقة ينقل تلك الدول إلى حالة التواطؤ والمشاركة الجماعية في تصفية القضية الفلسطينية.
هذا المجلس يضع على عاتق هذه الدول عبء الضغط وانتزاع السلاح، بعيدًا عن التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر، ما يُنظر إليه على أنه تبرير لمساهمتها في مشروع يضمن أمن الكيان الإسرائيلي، كما أن الخطة ركزت على رفض التهجير القسري والتأكيد على حق السكان في البقاء، وهو ما خفف الحرج عن دول مثل مصر والأردن التي تخشى التداعيات الأمنية والسياسية لقبول مهجرين، لكنه سيسمح بالبقاء للغزيين كمقيمين لا يمتلكون مأوى غير الخيام، ما يسهم في إيصالهم إلى القناعة الطوعية بالهجرة.
في المقابل، لم تترك الخطة للفلسطينيين خيارات حقيقية، بل فرضت عليهم “اللاحل”؛ فالفلسطينيون أمام خيار واحد هو تسليم سلاح المقاومة والقبول بالعيش تحت سقف وجود منزوع الحقوق.
وبينما اشترطت الخطة نزع سلاح المقاومة وتدمير بنيتها العسكرية، وهو أهم شرط لـ “وقف إطلاق النار” (الإبادة)، فقد تركت الخطة السلطة الفلسطينية “تغرّد خارج السرب”، حيث دعت الخطة إلى تشكيل إدارة انتقالية لإدارة غزة لا تقودها لا (حماس) ولا السلطة الفلسطينية، بل وربطت عودة الأخيرة بـ “برنامج إصلاحي” غير محدد المعالم أو السقف الزمني.
ورغم النفي الرسمي للتهجير القسري، إلا أن تسريبات سابقة للخطة تحدثت عن “إعادة التوطين الطوعي” مقابل تعويضات مالية تصل إلى 5000 دولار لكل فلسطيني يغادر، مع وصف غزة كـ “مشروع سياحي واستثماري ضخم”، ما يشي بالرغبة في إفراغ القطاع من أكبر عدد من سكانه تحت ضغط الحاجة.
غلاف الاستيلاء على غزة
إصرار ترامب على رؤية غزة كـ “مشروع سياحي واستثماري ضخم” يتجاوز الجانب الاقتصادي، ليصبح الأداة التي يفرض بها نفسه “حكمًا” في الساحة؛ فالخطة تحمل اسم (Great Trust) وتعني “إعادة تشكيل غزة وتسريعها وتحويلها اقتصاديًا”، وتتحدث عن استثمارات بـ 100 مليار دولار لتحويل الدمار إلى فرصة لجذب الاستثمارات.
هذا التغليف الاقتصادي هو الوسيلة لشرعنة السيطرة الأميركية – الإسرائيلية عبر الوصاية الأميركية المباشرة لعشر سنوات على الأقل، والإشراف على الأمن والاقتصاد بالتعاون مع قوى إقليمية ودولية، وفي ذلك تجريد المقاومة من شرعيتها عبر وسم حركة المقاومة (حماس) وكل فصائل المقاومة بـ “التطرف والإرهاب”، وربط مستقبل الازدهار بـ “الاستسلام التام” ونزع السلاح.
كما يجعل من غزة “عقارًا للاستثمار”، حيث تُفهم الخطة بأنها رسالة واضحة من ترامب مفادها: “سلموني غزة لأبني عليها مشروعي السياحي”، محولاً الأرض المحاصرة والمدمرة إلى ساحة مفتوحة لتصفية الصراع وتجريد أصحاب الأرض من حقوقهم الأساسية تحت غطاء التنمية.
بهذه الطريقة، يستخدم ترامب هذه الخطة كـ “بطاقة حمراء” يرفعها في وجه كل الأطراف الرافضة للمشروع، ليثبت نفسه المحكّم الأوحد الذي يمتلك مفتاح الحل، مجبرًا الجميع على الاختيار بين “الموافقة والعيش بلا حقوق” أو “الرفض والمواجهة العسكرية المفتوحة”، في مسعى واضح لتحقيق أجندة توسعية تستهدف تصفية القضية من منظور أمني واقتصادي محض.
إملاء الاستسلام
خطة ترامب ليست سوى عملية إملاء استسلام تم تغليفها بمصطلح “السلام”، وهدفت بشكل رئيسي إلى إنقاذ الاحتلال الإسرائيلي وإعادة تأهيله سياسيًا وشرعنة سياسة الأمر الواقع.
ولعل أحد أهم مكاسب الاحتلال على المدى الطويل هو الإبقاء على المنطقة العربية غير مؤهلة للتوحد وغير قادرة على اتخاذ أي مواقف معادية، وإعادة تأصيل وسم من يسميهم الأعداء بالإرهاب، فيما الأثر الأعمق للخطة هو إلزام الأنظمة العربية والإسلامية الثمانية التي شاركت في صياغتها، سواء تلك التي أقامت علاقات مع الكيان أو التي تسعى لذلك، بـ “مواجهة المقاومة الفلسطينية” لانتزاع موافقتها على الخطة، وهذا يعكس الهدف الأعمق: تطبيع سياسي يضمن مزاعم “أمن إسرائيل” على حساب قطع أي طريق لوحدة الصف العربي، فضلاً عن تصفية القضية الأساسية في انتزاع الحق في إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كامل التراب الفلسطيني.
في المقابل، لم تجد المقاومة الفلسطينية نفسها أمام تحدٍ وجودي يطلب منها الاستسلام السياسي ونزع السلاح فحسب، بل أمام إصرار صهيو-أميركي على تصوير المقاومة كـ “معطّل” للحياة، وقلب السردية الفلسطينية لاسيما بعد انكشاف التوحش الإسرائيلي في المنطقة؛ ذلك أن نتائج التقارب العربي-الإسرائيلي-الأميركي، لا شك سيؤدي إلى تعميق العزل السياسي للمقاومة الفلسطينية، وإلزام الأنظمة الإقليمية بعدم دعم أي نشاط مقاوم، مما يعزز خطاب وصم المقاومة بأنها “عدو الاستقرار الإقليمي”، بما يخالف الحقائق الواقعية والتاريحية التي أثبتت أن العدو يتمثل في الكيان الإسرائيلي وخلفه الأميركي.