لم يعد الصمت في غزة مجرّد رد فعل على الخوف، بل أصبح لغة جديدة يتحدث بها الأطفال الناجون من الإبادة.. لغة بلا حروف ولا نطق، تحكي ما عجزت عنه الذاكرة وأرهقته الأصوات المنفجرة. فمن بين أنقاض البيوت والملجأ والمدرسة، يخرج أطفالٌ بأعين مفتوحة وشفاه مغلقة، يصرخون من الداخل فقط.
تقول أمهات كثر إن أبناءهن لم يعودوا ينطقون بعد نجاتهم من القصف، رغم سلامة ألسنتهم وأوتارهم الصوتية. الصدمة النفسية حلّت محلّ اللغة، كما لو أن الكلام نفسه أصبح محرّمًا في مدينةٍ فقدت حقها في الحياة والضجيج.
حين يصبح الصمت عَرَضًا طبّيًا
وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن برنامج غزة للصحة النفسية، فإن ظاهرة “الخرس الصدمي” باتت تتفاقم بين الأطفال، إلى جانب أعراض أخرى مثل الكوابيس المتكررة، والرهاب من الأصوات العالية، والتبول اللاإرادي.
ويُعرّف الأطباء هذه الحالة بأنها فقدان مؤقت أو دائم للنطق نتيجة صدمة نفسية شديدة، حيث يعجز الطفل عن تحويل مشاعره إلى كلمات، فيلجأ إلى الصمت بوصفه شكلاً من أشكال الدفاع عن النفس.
يقول الدكتور ياسر أبو جامع، مدير البرنامج: “نحن أمام جيل يعيش في حالة استنزاف نفسي شامل، الطواقم الطبية تعمل وسط حرب إبادة تجعل حتى الاستمرار بالعلاج شبه مستحيل”.
وفي شهادته لمنظمة “أطباء بلا حدود”، وصف أحد الأطباء الحالة بدقة مؤلمة: “الطفل في غزة لا يعيش ذكرى الضربة، بل ينتظر الضربة التالية”.
اللغة التي تكسّرت تحت القصف
تربط اختصاصية النطق واللغة هبة حيدر بين العدوان وتراجع القدرات اللغوية للأطفال، مؤكدة في حديثها لـ”قدس برس” أن تقارير “اليونيسف” و”منظمة الصحة العالمية” رصدت حالات تأتأة مكتسبة بعد القصف “الإسرائيلي”، وهي ظاهرة تشير إلى انهيار المنظومة العصبية المسؤولة عن النطق.
وتضيف: “أطفال خرجوا من تحت الأنقاض توقفوا عن الكلام، ومراهقون يتهجّون الكلمات بصعوبة. كأن اللغة نفسها تكسّرت تحت ضغط الصدمة”.
وتتابع: أن “الأرقام قبل العدوان كانت تشير إلى أن أكثر من نصف أطفال غزة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، أما اليوم، فقد تجاوزنا مرحلة الخوف إلى مرحلة الانهيار اللغوي والنفسي الكامل”.
العلاج الممنوع من الوصول
في ظل الحصار المستمر وانهيار البنية الطبية، تحوّل العلاج النفسي إلى ترفٍ مستحيل.
تكشف حيدر أن مختصين في النطق من الأردن حاولوا مؤخرًا التواصل مع أطفال غزة عبر جلسات علاج عن بُعد، لكن انقطاع الاتصالات المستمر والقصف اليومي جعل من تلك المبادرات مجرد أمنيات.
المنظمات الإنسانية أكدت أن انعدام الأدوية المهدئة، وغياب الدعم النفسي الميداني، وازدحام المستشفيات بالجرحى، جعلت الأطفال يواجهون صدماتهم وحدهم، بلا أدوات ولا بيئة آمنة.
بل إن بعضهم فقد النطق بعد مشاهدته مقتل والديه أو أشقائه، أو بقائه أيامًا تحت الركام دون سماع سوى صرخاته.
وتحذّر حيدر من أن “الخرس الصدمي إذا لم يُعالج خلال الأشهر الأولى، قد يتحوّل إلى فقدان لغوي دائم، يصعب تجاوزه حتى بعد انتهاء الحرب”.
من الخوف الفردي إلى الصمت الجماعي
في الملاجئ والمستشفيات المؤقتة، أصبح الأطفال الذين لا يتحدثون مشهدًا متكرّرًا. بعضهم يكتفي بالإشارة إلى فمه حين يُسأل عن اسمه، وآخرون يغطّون آذانهم عند سماع أي صوت مرتفع، حتى لو كان أذان المسجد أو طرق باب.
تصف إحدى الأخصائيات العاملات في مستشفى الشفاء الوضع بقولها: “عندما نحاول أن نُشركهم في جلسات جماعية، يتحدثون بالنظر فقط. يعبّرون بالعيون، وكأن الصمت صار لغة مشتركة بينهم”.
الخرس الصدمي هنا ليس عجزًا عن الكلام فحسب، بل شكلٌ جديد من المقاومة الوجدانية، حين يختار الطفل اللاوعي وسيلة النجاة الوحيدة الممكنة: الانسحاب من اللغة إلى الداخل، من الجملة إلى النظرة، من الصوت إلى الصمت.
الخطر يمتد إلى الجيل التالي
تشير الدراسات الدولية إلى أن آثار الصدمة لا تتوقف بانتهاء الحرب. ففي رواندا والبوسنة وسوريا، رُصد انتقال الأعراض النفسية إلى الجيل التالي، عبر اضطرابات السلوك واللغة، ما لم يتم التدخل العلاجي في المراحل المبكرة.
ويخشى الأطباء في غزة من أن يتحول جيل “الخرس الصدمي” إلى جيل فاقد للتعبير والاتصال الاجتماعي، إذا لم يُقدَّم له الدعم النفسي المتكامل فور توقف العدوان.
خارطة طريق ممكنة وسط الرماد
رغم الظروف الكارثية، يرى مختصون نفسيون إمكانية وضع خطة استجابة نفسية عاجلة حتى في ظل استمرار العدوان.
تتضمن هذه الخطة – وفق اقتراحات برنامج غزة للصحة النفسية – إنشاء فرق دعم متنقلة في مناطق النزوح، وتخصيص زوايا لعب وعلاج جماعي للأطفال، وتفعيل برامج اتصال آمنة عبر الإنترنت لتدريب الأخصائيين المحليين على تقنيات التعامل مع “الخرس الصدمي”.
تقول حيدر في ختام حديثها: “على العالم أن يُصغي إلى صمت أطفال غزة، لأن صمتهم ليس فراغًا بل شهادة. وإذا لم نساعدهم على استعادة أصواتهم اليوم، فقد نفقد جيلًا كاملًا من القدرة على التعبير عن ذاته”.
أرقام من الإبادة المستمرة
منذ السابع من أكتوبر 2023، شنّت قوات الاحتلال – بدعم أميركي وأوروبي – إبادة جماعية ضد سكان قطاع غزة، شملت القتل والتجويع والتدمير والتهجير.
وأسفرت الهجمات عن سقوط أكثر من 238 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب 11 ألف مفقود، ومئات آلاف النازحين الذين يعيشون دون ماء أو دواء أو مأوى.
وفيما يمحو الاحتلال الإسرائيلي مدن القطاع من على الخريطة، يمحو العدوان أصوات الأطفال من ذاكرتهم، تاركاً وراءه جيلًا من الناجين الصامتين.