المصدر الأول لاخبار اليمن

ممرض بغزة يُعيد صديقه من ثلاجة الموت.. أطباء وممرضون في لحظات تحبس الأنفاس

غزة | وكالة الصحافة اليمنية | لم يكن يعرف الممرض إسماعيل الكرد (31 عاماً) أن الشاب المُصاب الذي تفقّد نبضه قبل لحظات، وأكّد استشهاده، وطلب نقله إلى “ثلاجة الموتى”، هو صديق عمره عبد الله خليل. وعندما أيقن ذلك، أسرع لإعادته إلى غرفة الإنعاش ليحاول جاهداً أن يعيد له قلبه الذي توقّف عن الحياة، وسط ذهول كل من التفّ حوله من الزملاء والأقارب.

ففي عصر يوم السادس والعشرين من أبريل 2025، كان قسم الطوارئ والاستقبال بمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة يعجّ بالمصابين والجرحى وذويهم، بعد قصفٍ إسرائيلي استهدف استراحة في وسط مدينة دير البلح. فتحوّل القسم إلى ساحة من الدم، وصراع بين الكوادر الطبية لإنقاذ المصابين.

ساعةٌ ونصف الساعة، كان إسماعيل يحاول فيها إعادة النبض لقلب صديقه، ولقلبه الذي كاد أن يتوقف من الحزن والكمد والفقد، وكان الجميع من حوله يحاولون تهدئته والتخفيف من وطأة الصدمة التي تلقّاها، لكنها كانت محاولات بائسة. أدرك في نهايتها أن الموت سرق صديق عمره، فأعاده مرةً أخرى بدموع القهر والفقد إلى ثلاجة الموت الباردة، ليُعلن عن استشهاده.

أطباء تحت القصف

الممرض الكرد يعمل في قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى شهداء الأقصى منذ عام 2018، وهو أبٌ لطفل يبلغ من العمر سنةً ونصف، وُلِد خلال الحرب. يصف ما عايشه خلال جريمة الإبادة بـ”المأساة” المحفورة في عقله وقلبه بكل تفاصيلها الموجعة التي ما تزال تبكيه حتى اللحظة.

يقول إسماعيل: “في هذا اليوم الذي استقبلت فيه صديقي، كان أحد الأيام الدموية بامتياز بفعل كثافة القصف الإسرائيلي. لذا عند استقبالنا للجرحى، كان ما يهمّنا هو قياس النبض لنتأكد من حالة الجريح، خاصةً عندما يكون وجهه مغطّى بالرماد والركام أو مشوهاً من الاحتراق الذي أحدثه القصف المباشر. لذلك عاينتُ صديقي ولم أتعرف عليه لحظتها. وعندما تيقنت أنه صديقي عبد الله لم أصدق، فهرولت مسرعاً إلى ثلاجة الموتى لإعادته ومحاولة إنعاشه، لكن الموت كان أقرب من محاولاتي الفاشلة”.

في هذه اللحظات القاسية، كان الأصعب على إسماعيل من فراق صديقه –وهو ابن عمته– هو تلقيه العزاء من شقيقات صديقه، حين تقدمن له يبكينه بحرقة وألم، ويتمسكن به كأنه آخر طوق نجاة، يطلبن منه أن يعيد لهن شقيقهن إلى الحياة وألا يتركه للموت. فكانت دموعه تسبق إجابته وتكشف عجزه.

أطباء تحت القصف : نفقد السيطرة على مشاعرنا

يقول إسماعيل: “مررتُ بمواقف صعبة خلال عملي، خاصةً عندما استقبلتُ أفراداً من عائلتي شهداء وجرحى وآخرين ما زالوا تحت الأنقاض. وقتها عجزت عن التحمل والسيطرة على نفسي ومشاعري، ولكن عملي يحتم عليّ أن أقف قوياً لأكمل مهمتي”.

أصعب المواقف التي تعرض لها إسماعيل تمثلت في لحظة ارتكاب الطائرات الإسرائيلية مجزرة بشعة بقصف منزل عمه حوالي الساعة العاشرة من صباح يوم 11 أكتوبر 2023، حيث ارتقى أكثر من 16 شهيداً من عائلته، بالإضافة إلى إصابة العشرات. وكان إسماعيل يعمل كعادته ليفاجأ بأفراد عائلته وقد وصلوا إلى المستشفى دون حياة.

وتوالت الأحداث الموجعة، ليُقصف منزل عائلة الزريعي في مدينة دير البلح، وهو المنزل المجاور لمنزل عائلة زوجته التي كانت تتواجد فيه. وكان من أصعب اللحظات حيث انقطعت الاتصالات حينها، وكان يخشى في كل لحظة أن يرى زوجته بين المصابين. وبعد ساعة تمكن من الوصول إليها والاطمئنان عليها.

مواقف مبكية

وبحزن وأسى، استذكر الممرض إسماعيل شاباً جاء مع عائلته بعد قصف منزلهم، ليُصدم بأن كافة أفراد عائلته قد استشهدوا. يقول إسماعيل: “أصعب موقف أن تُبلغ أحداً بارتقاء فرد من عائلته، فما بالك لو تبلغه تباعاً بارتقائهم جميعاً”. حتى وقع الشاب على الأرض يبكي بحرقة، ويُبكي كل من تواجد في المكان.

ولا ينسى الممرض الكرد ذلك العجوز السبعيني الذي حضر مع عائلته التي قُصف منزلها، ولم يتبقَّ منهم أحد. فكان يجري في ممر قسم الاستقبال صارخاً: “لم يبقَ لي أحد! أين أذهب؟”. حينها لم يتمالك إسماعيل نفسه وترك لدموعه العنان، باكياً حال شعبنا المكلوم.

يوم صعب

في صبيحة يوم الثاني عشر من أكتوبر 2023، اليوم السابع للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأت الممرضة هلا محمود عملها داخل أروقة مستشفى الإندونيسي في معسكر جباليا شمال قطاع غزة، وتحمل في قلبها دعوات أن يكون يوماً هادئاً أقل قسوة ونزفاً لدماء الشهداء والجرحى، بعد أن اشتد القصف ليلاً. إلا أنّ يومها خالف دعواتها، وكان الأصعب والأشد إيلاماً، بعدما صُدمت بعائلتها تصل إلى قسم الاستقبال والطوارئ بين شهيد وجريح، بعد أن دمّر صاروخ منزل جدّها وحوّله إلى شظايا وركام.

كان المستشفى يغصّ بالشهداء والجرحى، وأصوات نداءات المصابين وأنينهم تعلو فوق صوت الأطباء والممرضين الذين يتنقّلون بين هذا الجريح وذاك، يسابقون الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسط تدفق الأعداد الهائلة للمصابين. فتحوّل المكان إلى ساحة حرب بين الإنهاك والتعب الذي أنهك أجسادهم، وإصرارهم على علاج الجرحى وبث الحياة فيهم.

هلا كانت تعمل في الفترة الصباحية، تحاول جاهدة مع زملائها تدارك الأعداد الهائلة من المصابين الذين يصلون تباعاً للمستشفى، لكن قلبها تجمّد عندما رأت وجوهاً تعرفها رغم الدماء التي تغطيها. وكانت الصدمة الأكبر عندما رأت وجه شقيقها الذي تحفظ ملامحه، رغم تشوّه الوجوه غالباً بفعل القصف. بدا في حالة حرجة للغاية وهو ممدد أمامها على الأرض فاقداً للوعي، فظنت أنه استشهد. فتوقفت يداها عن العمل ولم تعد قادرة على الوقوف، لكنها تمالكت نفسها واستعادت جهدها لتعي ما جرى لعائلتها.

تقول هلا: “في هذا اليوم كانت الإصابات كثيرة، فالقصف اشتد على معسكر جباليا، ولم يكن هناك وقت للتنفس. كل لحظة يرتقي فيها شهيد. كان العمل تحت الضغط صعباً، حتى فوجئت بعائلتي تصل تباعاً”.

لم تستطع السيطرة على نفسها، وفقدت القدرة على التصرف للحظات، لكنها استجمعت قواها لتتمكن من إنقاذ عائلتها، وبدأت مع زملائها تقديم العلاج لهم.

تضيف: “كان القصف لبيت جدّي الذي يأوي عائلتي، فأصيب أخي بجراح خطيرة، بالإضافة إلى عشرة من أفراد العائلة، بينهم أخوالي وأبناؤهم، بين إصابات متوسطة وخطيرة وبسيطة. كان الأمر بالنسبة لي أصعب مما كنت أتخيله”.

الكوادر الطبية في مرمى النيران

لم تكن مأساة الطواقم الطبية في استقبال عائلاتها بين شهيد وجريح فقط، بل تعرضت لخسائر بشرية كبيرة بين شهيد وجريح ومعتقل. إذ بلغ عدد من استشهدوا أو جُرحوا أو اعتُقلوا من الكوادر الطبية نحو 1701، بينهم 157 طبيباً، و366 ممرضاً، و103 صيادلة، و254 مساعداً طبياً، و611 من الإداريين والعاملين في الخدمات الصحية، وفق بيانات وزارة الصحة.

كما أن نحو 362 من الكوادر الطبية اعتُقلوا أو أُخفيوا قسرياً داخل السجون الإسرائيلية، بينهم 88 طبيباً، و132 ممرضاً، و72 مساعداً طبياً، و47 موظفاً إدارياً، ما أسهم في نقص حاد في تقديم الخدمات الطبية، خصوصاً التخصصية منها.

كما قصفت “إسرائيل” ودمّرت نحو 38 مستشفى و96 مركزاً للرعاية الصحية، فيما استهدفت 197 مركبة إسعاف و61 مركبة إنقاذ وإطفاء منذ بدء العدوان.

وأدى الاستهداف المباشر للطواقم الطبية والمنشآت الصحية إلى تفاقم الأزمة الصحية في غزة، وسط نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وتهديد واضح بانهيار القطاع الصحي.

قد يعجبك ايضا