القنيطرة تشتعل: توغلات “إسرائيلية” وتصاعد المقاومة الشعبية وسط غياب كامل للفصائل المسلحة
خلف دخان الرصاص الناتج عن إطلاق النار التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي عند مشارف خان أرنبة في ريف القنيطرة تتكشف ملامح مشهد تتصارع فيه مشاريع استعماريه ومقاومة شعبية، وتغيب فيه الحماية الرسمية، فيما يجد السكان أنفسهم في الخط الأمامي للدفاع عن قراهم وسط فراغ سياسي وأمني.
في هذا التقرير، نرصد خلفيات العملية، ونفكّك قواعد الاشتباك في المنطقة العازلة، ونحلّل التوقيت “الإسرائيلي”، ونكشف أسباب تحوّل الأهالي إلى خط مواجهة مباشر في ظل غياب كامل للفصائل المسيطرة على سوريا والقوات التابعة للحكومة السورية المؤقتة.
عملية انتهت قبل أن تبدأ
وفق رواية جيش الاحتلال الإسرائيلي، دخلت قوة خاصة إلى أطراف خان أرنبة لاستجواب “مشتبه بهم”، لكن الأهالي بادروا بالاحتجاج ومحاصرة القوة، ما دفع الجنود لإطلاق النار على اثنين من السوريين قبل أن ينسحبوا سريعًا.
لكن ما جرى على الأرض كان أوسع بكثير مما ورد في بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي الرسمية.
يؤكد سكان من المنطقة أن هذا المشهد لم يكن استثناءً أو مجرد احتكاك عابر، بل “نقطة جديدة في سلسلة طويلة من التوغلات المتكررة”.
“أبو محمود حسن” أحد أبناء القرية ممن كانوا في موقع الحدث قال لوكالة الصحافة اليمنية: “لم نسمح لهم بالاقتراب من داخل البلدة. وقفنا في وجوههم، وارتفع عدد الناس بسرعة.. الاحتلال لم يكن مستعدًا لهذا الحجم من المقاومة الشعبية.”
الصحفية السورية من سكان القنيطرة، عائشة الطحان، قالت في روايتها للأحداث، توغلت دورية تابعة للاحتلال الإسرائيلي مؤلفة من سيارتين عبر طريق جبا حيث قامت الدورية بنصب حاجز عند الصقري بين جبا وخان أرنبة بريف القنيطرة الأوسط كما قامت قوات أخرى بقطع الطريق الرئيسي باتجاه العاصمة دمشق ووضع حواجز أخرى في خان ارنبة.
وأضافت: “بعد وضع الحواجز العسكرية أقدمت قوات الاحتلال على تفتيش الهواتف المحمولة للتحقق من أسماء وأشخاص محددين، وسط رفض من المدنيين للتعاون معهم، لتقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي برمي قنابل دخانية كثيفة على المدنيين في خان أرنبة بريف القنيطرة الشمالي وأطلاق النار باتجاه المدنيين مما أدى إلى إصابة 3 من الأهالي، محمد أحمد الدباك، وعبد الناصر محمد البكر، أصيبا بطلق ناري في الفخذ الأيمن، وباسل قاسم الخطيب أصيب بطلق ناري في الوجه.
فيديو صادم
سكان قرية خان أرنبة تداولوا مشاهد فيديو لرتل أمني تابع للحكومة المؤقتة يعبر الحاجز “الإسرائيلي”.
المعلومات الجديدة التي حصل عليها التقرير من سكان خان أرنبة تكشف مشهدًا غير مسبوق.
مرور رتل عسكري كبير للأمن الداخلي داخل القرية، وهو يعبر الحاجز الإسرائيلي دون أن يطلق رصاصة واحدة، ودون أن يتوقف لتقديم أي حماية للأهالي المحتشدين قرب قوات الاحتلال الإسرائيلي.
يقول “أبو محمود حسن”: تخيل.. رتل تابع لعناصر الأمن الداخلي يمر بعد دقائق من نصب جيش الاحتلال الإسرائيلي حاجزاً على مدخل بلدة خان أرنبة في ريف محافظة القنيطرة السورية وكذا أثناء تجمع الأهالي لمطالبتهم بالرحيل.. وفي الوقت نفسه قوات الاحتلال أطلقت الرصاص والغازات لتفريقنا ومع ذلك لم يقدم لنا الرتل شيئاً بل واصل دخول المدينة وكأنه مشغول فقط بالتصفيق والرقص فرحاً بمرور سنة على رحيل نظام الأسد.
وتابع: “لم نعد نثق بأي جهة حكومية أو فصيل مسلح، عندما تدخل قوات الاحتلال، لا أحد يتحرك.. نحن فقط من يقف بين القرية والخطر.”
وفي السياق، يقول “موسى” شاهد عيان من منطقة المركب في خان أرنبة: “جاء رتل امني ضخم.. 15 إلى 20 آلية على الأقل كان عائداً من العاصمة دمشق بعد مشاركته في احتفالات ذكرى سقوط نظام الأسد. الاحتلال كان يقف على حاجز طريق القنيطرة -دمشق ونحن قربه. الرتل مرّ ببساطة وكأن شيئًا لا يحدث. لم يسأل عما يجري، ولم يدافع عنّا.”
وبدوره يؤكد مجد اليونس، من أبناء منطقة عين النورية في خان أرنبة: “هذه الفيديوهات التي صوّرها شبان من القرية في منطقة المركب باتجاه مزارع الأمل تحرج الجميع.. الاحتلال يحتك مع الناس، والرتل يمرّ وسط فرح الاهالي بمشاهدتهم ويقومون بالهتاف “خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود” لكن الرتل واصل طريقه وكأنه في استعراض.”
وفي حادثة مماثلة نشر مركز توثيق السوري، على صفحته في منصة “إكس” حاجز لقوات الأمن السوري “حاجز أبو الطيب” المتواجد على طريق مدخل خان أرنبة، دورية عسكرية للاحتلال الإسرائيلي ترمي بالقرب من الحاجز قنابل دخانية على المدنيين أثناء مرور قوات النظام السوري أثناء مهامها لتأمين الاحتفالات الوطنية بالبلاد في الذكرى الأولى للتحرير”.
تلك الحوادث — وفق روايات الأهالي — ساهمت بقوة في تفاقم الاحتقان الشعبي، وزادت شعور الأهالي بأنهم متروكون لمصيرهم.
القنيطرة: أرضٌ بلا حماية
منذ اتفاق 1974، وُضعت القنيطرة ضمن منطقة عازلة تُراقَب من قبل قوات الأمم المتحدة (وندوف)، لكن الأعوام الأخيرة شهدت تآكلًا تدريجيًا في جدوى هذا الإشراف، مقابل ازدياد التوغلات العسكرية “الإسرائيلية” داخل نطاق يفترض أن يكون منزوع السلاح.
مصادر بلجان متابعة الحدود في ” فوج الجولان” سابقاً بقيادة مجد حيمود أكدت لوكالة الصحافة اليمنية أن الفترة الأخيرة شهدت: “إعادة رسم غير معلن لقواعد الانتهاكات “الإسرائيلية” داخل المنطقة العازلة، حيث أصبحت الدوريات والمسوحات الجوية حدثًا شبه يومي.”
وأوضحت: “تجاوزت التوغلات الإسرائيلية في المنطقة الجنوبية من سوريا، خلال شهر تشرين الثاني 75 عملية شملت اقتحامات واشتباكات في القنيطرة ودرعا وبيت جن بريف دمشق”.
تجاهل الفصائل.. واندفاع الأهالي
يبرز عنصر جديد في مشهد الجنوب السوري: تراجع واضح لسلطة الفصائل المسيطرة على المنطقة، والتي باتت وفق السكان “مُنهمكة في صراعات داخلية” أكثر من اهتمامها بحماية القرى.
يقول ناشط محلي من جنوب القنيطرة: “الفصائل التي تحكم اليوم لا ترى في حماية الأهالي أولوية. هي تركز على صراعاتها وعلى استهداف أبناء طوائف أخرى. لذلك، عندما تدخل قوة إسرائيلية لا تجد من يعترضها سوى السكان.”
ويضيف آخر: “الشرع نفسه قال إنه لا يريد الدخول بصراع مع إسرائيل، ماذا نتوقع بعد هذا التصريح؟”.
بيت جن: التي أربكت قوات الاحتلال
قبل أيام فقط من حادثة خان أرنبة، شهد ريف دمشق الغربي حادثة لم يسبق لها مثيل: إصابة 13 جنديًا “إسرائيليًا” الجمعة الماضية، في اشتباك مسلّح في بلدة بيت جن بريف دمشق الغربي.
اضطر جنود الاحتلال للانسحاب وترك آلية “هامر”، قبل أن يقصفها سلاح الجو لاحقًا خشية وقوعها بيد المسلحين.
تقول وسائل الإعلام العبرية أن “الجيش فتح تحقيقاً في احتمال نشر معلومات قبل أيام من اقتحام القرية، حيث أن الكمائن التي نصبها السكان تثير الشكوك حول معرفتهم بنوايا الاقتحام”.
وفي السياق، تقول مصادر سورية محلية من المنطقة: “السماء لم تهدأ لثلاثة أيام.. طائرات استطلاع إسرائيلية حلّقت فوق الريف الغربي، والمسح الجوي لم يتوقف.”
وفي المقابل، وثّقت منظمات سورية محلية استشهاد 13 مدنيًا في قصف “إسرائيلي” على البلدة، إضافة إلى أكثر من 25 مصابًا.
توقيت العملية: لماذا الآن؟
أولا) تصريحات معادية تغذي التوتر.
في 23 فبراير، صرّح رئيس حكومة الاحتلال “بنيامين نتنياهو” بأن حكومته تسعى لجعل جنوب سوريا منطقة خالية من السلاح.
هذا التصريح، وفق محللين، أعطى إشارة سياسية واضحة بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي “مسموح له بالتحرك داخل الحدود الرمادية”.
يقول المراسل الحربي السابق أحمد سلمان خبير شؤون الحدود السورية–الإسرائيلية: “تصريحات نتنياهو لم تكن كلامًا عابرًا.. كانت ترجمة لسياسة جديدة: التقدّم داخل الأرض السورية لفرض أمر واقع.”
الإعلامية في قناة الميادين فاطمة فتوني، قالت في منشور على منصة (X) قالت تعليقا عن الواقعة: ” وسائل إعلامية سورية تتحدث عن إصابة عدد من المدنيين جراء إطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار عليهم في بلدة خان أرنبة بريف القنيطرة، عقب اقتحام البلدة ونصب حواجز في محيطها!!! يراد لمنطقتنا ان تكون منزوعة السلاح لكي يسرح ويمرح الاسرائيلي على كيفه”.
ثانيا) فراغ السلطة السورية والفصائل.
يرى محللون وناشطون سوريون، أن القوى المسيطرة في سوريا — وبينها فصائل مدعومة من الولايات المتحدة وتركيا — تخلّت عمليًا عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتركّز على صراعات طائفية وعرقية داخلية.
هذا التراجع خلق فراغًا سمح لقوات الاحتلال بتوسيع عملياتها تحت ذرائع متعددة، بينها “منع وصول أسلحة” أو “حماية الحدود”، رغم أن الفصائل نفسها سبق أن بعثت رسائل طمأنة للاحتلال الإسرائيلي بأنها لا تنوي الدخول في صراع معها.
السكان يتحولون إلى خط الدفاع الأول
تزايدت في الأشهر الأخيرة حالات تصدي الأهالي لقوات الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة والهتافات، مقابل تجاهل كامل من الجهات المسؤولة محليًا.
ومع غياب القوة الرسمية السورية، وغياب الفصائل المسلحة، وارتفاع وتيرة الهجمات “الإسرائيلية”، تبرز ملامح “مقاومة محلية شعبية” في القرى الحدودية.
يقول “أبو محمود حسن”: “إذا لم نحمي قريتنا فلن يحميها أحد. ما حصل يوم التوغّل رسالة للجميع.”
القنيطرة: برميل بارود على وشك الاشتعال
تحذّر جهات دولية من احتمال تحوّل الجنوب السوري إلى منطقة اشتعال مفتوح، وصراع عسكري جديد مع قوات الاحتلال وذلك مع تزايد التوغلات “الإسرائيلية”، و الاحتكاكات الشعبية، في ظل غياب قوة محلية قادرة على فرض الاستقرار، إلى جانب الانهيار التدريجي لقواعد فك الاشتباك التاريخية.
ويرى خبراء عسكريون أن استمرار هذا النهج قد يقود إلى صراع عسكري محتمل وتداعيات إنسانية واسعة في منطقة تشهد أصلًا تدهورًا اقتصاديًا وخدماتيًا حادًا.
ما تكشفه حادثة خان أرنبة، والفيديو المتداول لعبور رتل أمني دون تدخل، ومواجهات بيت جن، جميعها تؤشر إلى تحوّل جذري بأن الجنوب السوري يتجه نحو مرحلة جديدة، حيث تتحول القرى الحدودية إلى ساحات مقاومة شعبية، فيما يستغل الاحتلال الإسرائيلي هشاشة الوضع الداخلي السوري لتوسيع حضورها الأمني والعسكري.
وبين دولة غائبة، وفصائل منشغلة بصراعاتها، واحتلال يتقدّم، يقف السكان وحدهم في خط الدفاع الأول — ومعهم كل الأسئلة الصعبة حول مستقبل الجنوب السوري بعد عقد من الحرب.