أثار اعتراف “إسرائيل” بإقليم أرض الصومال موجة واسعة من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية الكامنة وراء هذه الخطوة، ولا سيما في ظل المتغيرات المتسارعة التي شهدها البحر الأحمر منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى.
فخلال هذه المعركة، نجحت صنعاء في فرض واقع جديد في البحر الأحمر، حيث تمكنت من إيقاف الملاحة “الإسرائيلية” ومنع عبور السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” لما يقارب عامين، في تطور مثّل تحولًا استراتيجيًا لافتًا في موازين القوة البحرية، وألحق أضرارًا مباشرة بالتجارة “الإسرائيلية” وخطوط إمدادها.
في هذا السياق، يبرز موقع أرض الصومال كعنصر محوري في الحسابات “الإسرائيلية”، إذ يقع الإقليم في نطاق جوار جغرافي مباشر لليمن، على الضفة المقابلة لخليج عدن، ويطل بشكل مباشر على مضيق باب المندب ، ويمنح هذا الموقع الجغرافي بالغ الحساسية أي وجود عسكري أو استخباراتي فيه قدرة كبيرة على التأثير في حركة الملاحة البحرية في المنطقة، وهو ما تسعى إليه “إسرائيل”، خاصة بعد تعطل ملاحتها خلال معركة طوفان الأقصى، ووقوفها عاجزة عن كسر الواقع البحري الذي فرضته صنعاء.
وانطلاقًا من ذلك، فأن اعتراف “إسرائيل” بأرض الصومال يندرج ضمن إطار استعدادها للمرحلة المقبلة من المواجهة مع صنعاء، باعتبار ما قد يتيحه هذا الاعتراف من إمكانية إقامة قواعد عسكرية في هذه المنطقة الاستراتيجية.
وعليه، يمكن فهم هذا الاعتراف كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى مواجهة النفوذ الذي فرضته صنعاء في البحر الأحمر، ومحاولة لإعادة تشكيل معادلة الردع البحري، بعد أن فقدت “إسرائيل” حرية الملاحة التي كانت تتمتع بها سابقًا.
مخاطر مباشرة تهدد أمن المنطقة بأكملها
في المقابل، فإن العالم بأسره بات بحاجة ماسة إلى تحقيق الاستقرار في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، نظرًا لأهميتهما الحيوية للتجارة العالمية.
ومن هذا المنطلق، فإن أي وجود “إسرائيلي” عسكري أو استخباراتي في منطقة شديدة الحساسية مثل أرض الصومال لن يسهم في تحقيق الاستقرار، بل سيؤدي إلى تصعيد الصراع وتوسيع رقعته إقليميًا ، فالتموضع “الإسرائيلي” قرب مضيق باب المندب، أحد أهم شرايين الملاحة الدولية، ينطوي على مخاطر مباشرة تهدد أمن المنطقة بأكملها، وفي حال أقدمت “إسرائيل” على استخدام أراضي أرض الصومال كنقطة انطلاق لتنفيذ عمليات عسكرية أو أعمال عدائية ضد صنعاء، فإن ذلك سيدفع المنطقة نحو مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة،
إذ من غير المرجح أن تقف صنعاء مكتوفة الأيدي إزاء هذا التهديد، بل ستتعامل مع هذا الوجود باعتباره هدفًا مشروعًا، وقد تبادر إلى استهدافه في إطار إجراءات استباقية وقائية.
أما بخصوص حسابات “إسرائيل” فإنها تخطئ في تقدير قدرتها على إعادة رسم معادلات القوة في البحر الأحمر عبر هذا التمركز الجغرافي، فصنعاء، التي راكمت خلال السنوات الأخيرة قدرات عسكرية متطورة، أثبتت قدرتها على الوصول إلى أهداف بعيدة والتعامل مع تهديدات متعددة، ولن تقبل بأي وجود “إسرائيلي” يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها.
وبناءً عليه، فإن الرهان “الإسرائيلي” على أن هذا الوجود سيمنحها تفوقًا استراتيجيًا أو قدرة على تحييد خصومها يبدو رهانًا محفوفًا بالمخاطر، وقد يقود إلى نتائج عكسية تتمثل في توسيع دائرة الاستهداف ضدها.
والأخطر من ذلك أن هذه الخطوات تمثل زعزعة حقيقية لأمن الملاحة البحرية الدولية، إذ إن تحويل سواحل القرن الإفريقي ومضيق باب المندب إلى مسرح صراع جديد سيترك تأثيرات بالغة على حركة التجارة العالمية.
وهو ما يعني أن تداعيات هذا التصعيد لن تقتصر على أطراف النزاع فحسب، بل ستمتد لتطال الاقتصاد العالمي بأسره، والدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن على وجه الخصوص.
جذور العلاقة بين “إسرائيل” وأرض الصومال
في الواقع، لا يمكن النظر إلى العلاقة بين “إسرائيل” وإقليم أرض الصومال باعتبارها تطورًا طارئًا أو وليد اللحظة، بل تأتي ضمن مسار تراكمي من التنسيق غير المعلن، فرضته اعتبارات جيوسياسية وأمنية مرتبطة بالصراع في البحر الأحمر ومحيطه .
وتشير معطيات متداولة في هذا السياق إلى أن أرض الصومال لعبت دورًا وظيفيًا في المواجهة غير المباشرة مع صنعاء، عبر أطراف إقليمية، وفي مقدمتها دولة الإمارات، حلقة الوصل الأساسية في هذا المسار ، والتي نصبت في أبريل 2025 في ذروة المواجهة بين صنعاء و”إسرائيل” رادار ” في مطار بوصاصو الواقع ضمن نطاق أرض الصومال لتعزيز منظومات الرصد والإنذار المبكر لصواريخ وطائرات صنعاء المسيرة التي كانت تستهدف “إسرائيل”
وتكشف هذه المعطيات أن العلاقة بين “إسرائيل” وأرض الصومال لم تقتصر على قنوات سياسية أو دبلوماسية محتملة، بل اتخذت طابعًا أمنيًا وعسكريًا غير مباشر، جرى توظيفه ضمن شبكة إقليمية أوسع، تسعى إلى تطويق النفوذ الذي راكمته صنعاء خلال السنوات الأخيرة .
وفي هذا الإطار، يمكن قراءة الاعتراف “الإسرائيلي” بأرض الصومال – أو السعي نحوه – باعتباره خطوة لتكريس واقع قائم، ومنح غطاء سياسي وقانوني لتعاون أمني بدأ فعليًا قبل الإعلان عنه، وليس نقطة انطلاق جديدة بحد ذاتها.
استراتيجية أميركية–”إسرائيلية” لتطويق صنعاء
ويمكن النظر إلى الخطوة “الإسرائيلية” في أرض الصومال باعتبارها جزءًا من استراتيجية كبرى تقودها الولايات المتحدة بالشراكة مع “إسرائيل”، تهدف إلى تطويق صنعاء وإعادة رسم معادلات القوة في البحر الأحمر، عبر بناء شبكة من القواعد العسكرية المنتشرة حول اليمن.
وتقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ الضغط الجغرافي المحيط، من خلال إحاطة اليمن بنقاط تمركز عسكرية واستخباراتية متقدمة، تُستخدم لاحقًا في أي تصعيد عسكري أو عدوان محتمل، أو كأدوات ضغط وردع في سياق الصراع القائم.
وبحسب هذا التصور، فإن ما يجري في أرض الصومال لا يُعدّ خطوة منفصلة ، بل حلقة ضمن مسار بدأ تنفيذه فعليًا مطلع العام الجاري، عبر أدوار إقليمية، وفي مقدمتها دولة الإمارات، التي يُنظر إليها باعتبارها طرفًا فاعلًا في تهيئة البنية الميدانية لهذه الاستراتيجية، حيث أنشئت الامارات في مطلع العام الجاري 2025 قاعدة عسكرية مشتركة تضم قوات أمريكية و”إسرائيلية”، بما يعزز الوجود العسكري في البحر الأحمر، ويوفر منصة عملياتية قريبة من السواحل اليمنية.
ويُفهم هذا الانتشار العسكري على أنه محاولة لإعادة فرض معادلات ردع جديدة، بعد أن نجحت صنعاء في تعطيل الملاحة “الإسرائيلية” وفرض واقع أمني مختلف في البحر الأحمر. كما يعكس سعي واشنطن و”إسرائيل” إلى استعادة زمام المبادرة في هذه المنطقة الحساسة .