بينما يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم الإبادة الجماعية في غزة، تتكشف هشاشة “السلام” المزعوم مع مصر عبر حرب نفسية مشتعلة على الحدود. كان التوتر ظاهرًا في رد فعل محافظ شمال سيناء، اللواء خالد مجاور، على تصريحات نتنياهو الاستفزازية التي لوّح فيها بـ”خريطة إسرائيل الكبرى”، تأكيدًا على مشروعه التوسعي الذي يهدد الأراضي العربية. هذه الواقعة تبرز التناقض العميق في العلاقة بين البلدين؛ ففي حين يمنع الارتباط الاقتصادي والاستراتيجي المباشر اندلاع صراع عسكري، يكشف خطاب نتنياهو عن صراع أيديولوجي كامن يهدف إلى جس النبض واختبار حدود الصبر المصري.
نتنياهو يطلق قذيفة حرب نفسية مدوية

يواجه نتنياهو انتقادات شديدة لإدارته لحرب غزة، وتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، وانقسامات داخلية داخل مجلس وزرائه الحربي. هنا، بات نتنياهو يدرك أنه أصبح محاصرًا بواقع مشحون بالضغوط الداخلية والخارجية، وبالتالي، أصبح بحاجة ماسة إلى البحث عن ساحة معركة جديدة قريبة من الحرب العسكرية، ولكن تُدار بالكلمات والرموز، ولاسيما حيث تُشكل “الروايات” وتُختبر “الخطوط الحمراء”.
يأتي هذا التصريح محاولة من نتنياهو، الذي يعاني من تراجع شعبيته، كقذيفة حرب نفسية مدوية لاسيما وأنها تتزامن مع معارضة نتنياهو باستمرار لإقامة دولة فلسطينية، والتي يرى فيها الكثير نوايا الاحتلال الإسرائيلي لتوسيع حكومته الاستيطاني غير القانوني يجسد هذه الرؤية، وهو ما يخلق “حقائق على الأرض” تجعل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرًا مستحيلًا.
أمام عدسات قناةi24News ، رفع نتنياهو تميمةً تحمل خريطة “إسرائيل الكبرى”، ليؤكد ارتباطه العميق برؤية أيديولوجية تتمدد لتبتلع أراض فلسطين ولبنان والأردن وسوريا والكويت، وأجزاء من العراق والسعودية وتتسلل بأخطر ما حملت من عمق إلى الأراضي المصرية، وتحديدًا إلى “شبه جزيرة سيناء”. ولأن تأكيد هذه الرؤية يروق لقاعدته المتشددة وشركائه في الائتلاف، وربما يساعده على الحفاظ على استقرار حكومته وسط الضغوط الداخلية.
أكد نتنياهو صراحة “ارتباطه الشديد” بهذه الرؤية ووصف نفسه بأنه في “مهمة تاريخية وروحية” للشعب اليهودي، ربطها بأجيال الماضي والمستقبل ليعلن تدشين مرحلة حرب نفسية باردة، تهدف إلى زعزعة أسس “سلام هش” بين القاهرة وتل أبيب.
الصدى في المقابل المصري
ما كاد صدى تصريح نتنياهو يهدأ حتى اندلعت موجة غضب عارمة في القاهرة. كانت مصر تنظر إلى الخريطة لا كرمز أيديولوجي غامض، وإنما كتهديد مباشر يفوق مفهوم الحدود الجيوسياسية ليمس رمزية استعادة الأرض والدماء التي سالت من أجلها؛ فسيناء ليست صحراء وجزء من الأراضي المصرية، وإنما قصة كفاح ومجد، استُعِيدت بعد معارك طاحنة، وأضحت مقياسًا للسيادة الوطنية التي لا يمكن المساس بها.
على الفور، تحركت آليات الرد المصرية على مستويات متعددة. أدانت وزارة الخارجية المصرية بشدة تصريحات نتنياهو، وطالبت “بتوضيحات” وذكرت أن مثل هذه التعليقات “تغذي عدم الاستقرار وتظهر رفضاً للسعي نحو السلام في المنطقة”. وذكرت القاهرة صراحة أن هذه التعليقات “تتناقض مع تطلعات الأطراف الإقليمية والدولية التي تقدر السلام وتسعى لتحقيق الأمن والسلام لجميع شعوب المنطقة”.
وأكدت مصر مجددًا أن “المسار الوحيد للسلام هو العودة إلى المفاوضات وإنهاء الحرب على غزة، مما يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية”. ونسقت مصر إدانتها مع دول عربية أخرى، بما في ذلك السعودية والأردن وقطر وجامعة الدول العربية، وجميعها أدانت التصريحات باعتبارها “تهديدًا لسيادة الدول” و”تصعيدًا خطيرًا واستفزازيًا” وتعكس “نوايا توسعية وعدوانية”.
ردت وسائل الإعلام والرأي العام المصري بـ “غضب” و”سخط”. واعتبرت التصريحات تقويضًا للاستقرار الإقليمي وتعكس توجهًا سياسيًا يعارض السلام. وصرح مسؤولون مصريون، بمن فيهم رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان المصري، اللواء إبراهيم المصري، بأن “لا أحد سيسمح لنتنياهو بتحقيق أحلامه”.
كما أصدر محافظ شمال سيناء تحذيرًا شديدًا ضد أي تجاوز للحدود المصرية، مهددًا برد فعل “مذهل”. وعبر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي عن غضبهم، مع تعليقات مثل “إذا حاول نتنياهو تطبيق هلوساته الدينية علينا، سندافع عن بلدنا بكل قوة”.
واعتبرت التعليقات أنها تكشف “حلمًا صهيونيًا توسعيًا” و”عقلية استعمارية”. أدان الأزهر الشريف، وهو مؤسسة سنية إسلامية بارزة في مصر، بشدة تصريحات نتنياهو، واصفًا إياها بأنها “غير مسؤولة” و”أوهام” “لن تغير الحقيقة”. وأكد الأزهر أن “فلسطين أرض عربية وإسلامية خالصة، وستظل مقاومة للمحو وتشويه الحقائق”، وأن الأماكن المقدسة لن تكون “هدفًا سهلاً”.
لم يكن الغضب محصوراً في الأروقة الرسمية؛ فقد تطاير في الشارع المصري ووسائل الإعلام. غدا نتنياهو هدفاً لسيل من الانتقادات اللاذعة، وتصاعدت لغة “العدو الصهيوني” و”الكيان الاستعماري”، في سردية تهدف إلى تعزيز الشرعية الداخلية للنظام، وتوجيه الغضب الشعبي نحو عدو خارجي. وهكذا، تحولت الكلمات إلى أسلحة، والشارع إلى جبهة.
الجدران الحديدية والضغوط الداخلية
لكن لماذا يختار نتنياهو هذه اللحظة بالذات لإثارة فتيل التوتر؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن ننظر إلى ما وراء تصريحاته لنكتشف لعبة شطرنج سياسية معقدة. فبينما كان الرأي العام في الداخل الإسرائيلي يواجه انقسامات حادة بسبب إدارة حرب غزة وتزايد الاحتجاجات المطالبة بإنهاء الصراع، كان نتنياهو في حاجة ماسة إلى أداة لترسيخ سلطته وتوحيد قاعدته السياسية.
وهنا، تأتي رؤية “إسرائيل الكبرى” كطوق نجاة. فقد تحولت من فكرة دينية أو تاريخية إلى حجر الزاوية الذي يجمع شتات ائتلافه اليميني المتطرف. فمن خلال إثارة هذا المفهوم، يُعيد نتنياهو تأكيد التزامه باليمين المتشدد، ويرسل رسالة واضحة إلى شركائه في الحكم بأن “الحرب ليست بلا هدف”، وإنما جزء من “مهمة تاريخية وروحية” أوسع، لربط الصراع الحالي بأسس أيديولوجية تُعطي شرعية لأفعاله وتزيد من فرص بقائه السياسي. لقد كانت هذه المناورة بمثابة ضربة استباقية، تهدف إلى تحويل الانتباه عن التحديات الداخلية وتوجيهها نحو تهديد خارجي متصور، مما يضمن تماسك الجبهة الداخلية في وقت الأزمة.
قصة سيناء.. نقطة الاشتعال الأبدية
لفهم عمق الصدمة التي أحدثتها تصريحات نتنياهو، يجب العودة إلى أرشيف الذاكرة التاريخية. فسيناء لم تكن يوماً مجرد قطعة من الأرض. في أزمة السويس عام 1956، احتلت إسرائيل سيناء وانسحبت تحت ضغط دولي. وفي حرب 1967، احتلتها مرة أخرى، لتصبح رمزاً لـ”احتلال طويل الأمد” لم ينتهِ إلا بمعاهدة كامب ديفيد في عام 1978.
لقد كانت حرب أكتوبر 1973، بالنسبة للمصريين، أكثر من انتصار حرب؛ كانت عملية استعادة كرامة وثأر وطني، وتوجت بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من سيناء بالكامل في عام 1982. ولهذا، فإن أي إشارة إلى “سيناء” في سياق المطالبات الإسرائيلية لا تثير فقط القلق من التوسع، بقدر ما أنها تستفز ذاكرة أمة وتتحدى هويتها الوطنية الأساسية.
هذا هو سر “السلام البارد، إنه سلام رسمي على الورق، لكنه يفتقر إلى الثقة الشعبية، ويُبنى على أساس هش من المصالح المشتركة والتوترات الكامنة. وبالتالي، فإن تصريحات نتنياهو لم تكن لتهدد فقط “اتفاقية السلام” فحسب، وإنما تهديد، وبشكل مباشر، لأسس ذلك “السلام الهش”، بل وحولت “السلام البارد” إلى أرض معركة نفسية تُختبر فيها قوة الإرادة المصرية لاسيما وأن التناقض الأكبر في هذه “الحرب النفسية” يكمن في المفارقة بين الخطاب السياسي العدواني والاعتماد الاستراتيجي المتبادل. ففي الوقت الذي كانت فيه قذائف نتنياهو اللفظية تتطاير، كانت المصالح الاقتصادية والأمنية تعمل كقوة مضادة قوية تمنع انهيار العلاقات.
عندما يحد الاقتصاد من الرد غير المتماثل

تمثل صفقة الغاز الأخيرة، التي تربط مستقبل الطاقة في القاهرة بالغاز الإسرائيلي حتى عام 2040، قيدًا ضخمًا على قدرة مصر على الرد بقوة. فبينما يستلزم الخطاب المحلي القوي إدانةً رسميةً، فإن الاعتماد الاقتصادي يحد من النفوذ العملي للقاهرة، مما يضعها في موقف حرج؛ فالحرب النفسية تزيد من الضغط الداخلي على النظام المصري، وتجعل دفاعه عن الصفقة أمرًا صعبًا، حتى لو كانت الضرورات الاقتصادية والأمنية تمنع حدوث قطيعة كاملة.
هذا هو جوهر الحرب النفسية في هذه العلاقة؛ إنها تعمل في المقام الأول في مجال التصورات والإشارات السياسية، وتتلاعب بالرأي العام لتُحقق أهدافاً داخلية، بينما تظل آليات التعاون الأمني والاقتصادي قائمة تحت السطح، وتمنع انهياراً كاملاً. إن “السلام البارد” ليس غياباً للعداء، وإنما هو نظام من المخاطر المُدارة، حيث تخدم العدائية العلنية غرضاً استراتيجياً.
ملاحة في بحر من عدم اليقين
حادثة أغسطس 2025 لم تكن سوى حلقة في سلسلة مستمرة من الحرب النفسية بين مصر و”إسرائيل”. فقد كشفت تصريحات نتنياهو عن فجوة عميقة بين العلاقات الرسمية والمشاعر الشعبية، وأظهرت هشاشة السلام الذي بُني على المصالح المشتركة لا على فهم حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني.
عندما يكون وعي العدو متقدمًا على وعي الأمة، تصبح المعركة خاسرة منذ بدايتها، ويكون الخضوع والإذعان نتيجة طبيعية، مهما ادّعت بعض الأنظمة والشعوب الصمود اللفظي. إن أعظم خدمة يمكن تقديمها للعدو هي أن تبقى الأمة في غفلة عن مشروعه، وأن نعيش أوهام “السلام” و”الحوار” و”الشرعية الدولية”، بينما هو يبني خطواته على أساس عدائي واضح.
حين يكون للعدو مشروع متكامل، يبدأ باستهداف الوعي وينتهي بإخضاع القرار السياسي والسيادي للأمة، فإن أي مقاومة لا تقوم على وعي بحقيقة هذا المشروع لن تكون أكثر من مجرد رد فعل عاطفي محدود التأثير.
ولعل أبرز دليل على ذلك هو الديناميكية الحالية، حيث يستخدم العدو الصهيوني خطابًا توسعيًا لاختبار ودفع الحدود، بينما تضطر مصر إلى إنفاق قدر كبير من رأس المال الدبلوماسي للدفاع عن سيادتها. تُبرز هذه اللعبة التي تُدار بالكلمات والرموز، مفارقة عميقة في العلاقة بين الطرفين. ففي حين يمنع الترابط الاستراتيجي والاعتماد الاقتصادي حدوث صراع عسكري مباشر، فإنهما يغذيان في الوقت نفسه دورة من عدم الثقة والتوتر، مما يجعل السلام الشامل أمراً بعيد المنال.