من فشل عاصفة الحزم إلى المغامرة الجديدة.. تحذير صنعاء يضع مصير الرياض وأبو ظبي على المحك
تحليل | وكالة الصحافة اليمنية
في سياق معترك التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، يبرز تساؤل مهم حول التداعيات المحتملة لأي تورط جديد للنظام السعودي في الداخل اليمني، سواء أكان ذلك في إطار مواجهة مباشرة أو غير مباشرة. يقدم هذا التقرير رؤية استشرافية تتجاوز السرد الإخباري التقليدي، وتستعرض المخاطر المترتبة على المستويات الاستراتيجية والجيوسياسية كافة.
مع الأخذ في الاعتبار أهمية الاستفادة من دروس تجربة عدوان عام 2015، يتضح أن أي عودة محتملة إلى المواجهة لن تكون تكراراً للسيناريو السابق، بل ستواجه بيئة أكثر تعقيداً وخصماً أكثر قدرة. كما يطرح هذا التقرير تساؤلات حول فعالية التحالفات التقليدية؟
العبرة من الماضي
الخروج من المأزق اليمني لا يكمن في العودة إلى خيارات المواجهة، بل في تبني مقاربة استراتيجية جديدة ترتكز على الحلول الدبلوماسية وتعزيز الاستقرار الإقليمي، لاسيما إذا ما عدنا بعجلة التاريخ إلى نقطة انطلاق النظام السعودي في تحالفه العسكري عام 2015 ضد اليمن، وتحديداً سلطات صنعاء، تحت مسمى “عاصفة الحزم”، كانت الأهداف المعلنة تتمركز حول مزاعم استعادة “الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً” وتقويض النفوذ المتنامي لسلطات صنعاء.
هذه الدوافع شملت أيضاً محاولة السيطرة على منفذ بحري حيوي. ومع ذلك، لم يتمكن التحالف من تحقيق الحسم العسكري المرجو، بل وجد نفسه غارقاً في صراع استنزافي طويل الأمد. ومع تزايد الخسائر الميدانية والاقتصادية، انخفضت الأهداف المعلنة إلى مجرد البحث عن مخرج يحفظ “ماء الوجه”.
تحول المشهد تماماً، حيث لم تعد التهديدات تقتصر على الحدود اليمنية، بل تجاوزتها لتستهدف المنشآت الحيوية في عمق السعودية والإمارات عبر الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وهو ما دفع الرياض في نهاية المطاف إلى السعي لوساطة عمانية في محاولة لوقف هذه الهجمات والوصول إلى هدنة.
ترك عدوان عام 2015 حصاداً مريراً من الخسائر البشرية والمادية لدى التحالف، مما يعزز أنها كانت “جولة خاسرة” بكل المقاييس. ففي احصائيات عدوانه 26 مارس 2024 على اليمن، وحسب قناة الميادين، بلغت الخسائر البشرية المعترف بها في صفوف جحافل جيوش تحالف العدوان الصهو-أمريكي- السعودي الاماراتي10 آلاف جندي وضابط ما بين قتيل وجريح و1240 قتيلاً وجريحاً من القوات الإماراتية، بينما كانت الخسائر البشرية في صفوف القوات الموالية لـ “حكومة عدن” الموالية للتحالف كبيرة.
لم تكن التكلفة الاقتصادية بمنأى عن تلك الإحصائية، حيث تشير التقديرات إلى أن التكلفة المباشرة التي تكبدتها دول التحالف في عدوانها على اليمن تراوحت بين 85.7 مليار دولار و87.5 مليار دولار، في حين أن التكلفة غير المباشرة قد تصل إلى 150 مليار دولار. وكنتيجة مباشرة للحرب، ارتفع الإنفاق العسكري السعودي إلى 82.2 مليار دولار في عام 2015 وحده. هذا الاستنزاف المبكر للموارد كان بمثابة ضربة لخطط “رؤية 2030” الطموحة.
تآكل نفوذ التحالف وتنامي القدرات اليمنية
لم يقتصر فشل العدوان على الجانب المادي، بل امتد ليطال الأهداف الاستراتيجية الأوسع. لتقضي ثورة الـ 21 من سبتمبر 2014م، على الوصاية السعودية المطلقة والتي كانت المسيطرة على مجريات الحياة السياسية في البلاد إلى درجة أن معظم قرارات التعيين في المناصب العليا لا تصدر إلا بإشارة من الرياض. كما أن الاستراتيجية الأمنية التي اعتمدتها الرياض، والتي شملت حتى تدابير اجتماعية مثل تقليص أعداد العمال اليمنيين، لم تنجح في درء التهديدات الأمنية، بل على العكس من ذلك، عززت من مشاعر السخط الشعبي والاستياء من سياسات التحالف.
الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة أدى إلى إطالة أمد الصراع، وهو ما منح سلطات صنعاء الوقت الكافي لتطوير قدراتها العسكرية بشكل كبير. هذه القدرات، التي تشمل الآن الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، ذات التقنيات العالية والبعيدة المدى التي باتت تضرب في العمق الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة إسنادا ودعما للمقاومة الفلسطينية في غزة، لم تعد تهديداً تكتيكياً على الحدود، بل تحولت إلى سبب قوة استراتيجية رادعة تهز أركان أعتى قوة في المنطقة “إسرائيل”، وجربتها الرياض في أرامكو وكذلك في العمق الاماراتي في أبوظبي. وهكذا، فإن فشل التحالف السابق يعد درساً تاريخياً؛ يجب أن يبنى عليه الأساس قبل القدوم على أي تحدي جديد.
مؤامرة جدية لتقويض عمليات صنعاء البحرية
في هذا السياق، تجاوز ما يسمى بمؤتمر “شراكة الأمن البحري اليمني (YMSP)”، الذي استضافته الرياض بالشراكة مع حكومة التحالف، كونه مجرد اجتماع لتعزيز مزاعم “الأمن البحري”.، فهذه التحركات لا يمكن فصلها عن التوترات الإقليمية الحالية، ولا سيما موقف سلطات صنعاء الداعم للمقاومة الفلسطينية.
هذا المؤتمر، بمخرجاته المعلنة وغير المعلنة، يكشف عن مؤامرة جديدة لتقويض سيطرة صنعاء على السواحل اليمنية والضغط عليها للتراجع عن عملياتها العسكرية التي تستهدف سفن الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.
في سياق متصل، لم تعد العلاقة بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي والسعودية مجرد همس في الأروقة الدبلوماسية، بل باتت واقعاً مكشوفاً. فبرغم غياب العلاقات الرسمية، استمر التعاون بين الجانبين في الظل لسنوات طويلة، قبل أن يظهر إلى العلن بشكل أكثر وضوحاً في نوفمبر 2020، حين التقى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بولي العهد السعودي محمد بن سلمان على متن يخت في البحر الأحمر، كما أوردت صحيفة “تايم أوف إسرائيل”، وكشفت جزءاً من الدور المحوري لجهاز الموساد في هذه اللقاءات.
لم تكن هذه المبادرات مجرد لقاءات رمزية، بل جسدت تحولاً استراتيجياً، إذ يزعم الطرفان وجود “مصالح مشتركة”، أبرزها “احتواء النفوذ الإيراني”، فضلاً عن الدعم السعودي للاحتلال الإسرائيلي في الحرب الإجرامية على قطاع غزة، وآخرها فضيحة السفينة السعودية المحملة بالأسلحة للاحتلال.
في هذه الكتلة التآمرية، تجتمع نتائج ما يسمى بالمؤتمر الدولي والعلاقة الصهيو-سعودية، في جوهر واحد لتشكل أداة سياسية وعسكرية تستهدف محاصرة سلطات صنعاء وتقويض نفوذها، في محاولة لثنيها عن موقفها الداعم للمقاومة. ويسعى المؤتمر إلى خلق كيان دولي يُسمى “الأمانة العامة المشتركة لأمن الملاحة البحرية” يتم فرضه بالقوة الدولية، كبديل عن اليمن في إدارة المياه الإقليمية، وبما يمنح الرياض وشركاءها غطاءً قانونياً للتحكم في الملاحة البحرية قبالة السواحل اليمنية.
لماذا لا يجب تكرار “المغامرة”؟
في المقابل، يبدو موقف سلطات صنعاء من المؤتمر واضحاً وحاسماً، حيث قرأته على أنه تصعيد جديد ومحاولة لتقويض سيطرتها على المياه الإقليمية اليمنية، واعتبرته “غطاءً سياسياً” لتحركات عسكرية تهدف إلى حماية مصالح الكيان الإسرائيلي. كما صدرت تحذيرات مباشرة من قيادات ومسؤولين في صنعاء تؤكد أن أي تحرك عسكري يخدم الكيان الإسرائيلي سيجعل الرياض هدفاً مباشراً للرد، ولعل أبرزها موقف السيد عبد الملك الحوثي الخميس الماضي.
لقد وجه السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي رسائل تحذير ونصيحة للرياض بضرورة ترك اليمن وشأنه، مؤكداً أن سلطات صنعاء في مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية والبريطانية والكيان الإسرائيلي. وتشير هذه الرسائل إلى أن أي تورط سعودي جديد سيكون بمثابة إقحام للرياض في صراع مباشر مع خصم يمتلك قدرات متنامية ويستهدف مصالحها الحيوية.
يشير التحذير إلى أن السعودية تمتلك “الكثير الكثير” من الأهداف القريبة التي يمكن استهدافها وإلحاق “أبلغ الضرر” بها، على عكس القوات الأمريكية التي تهاجم من البحر. كما يذكّر التحذير السعودية بأنها لن تنجح في إيقاف العمليات اليمنية المساندة للشعب الفلسطيني، بل ستكون الخاسر الأكبر. هذا التحذير، يمثل خارطة طريق استراتيجية تفهم من خلالها السعودية أن العودة إلى المواجهة لن تؤدي سوى إلى خسائر فادحة، دون تحقيق أي من الأهداف المرجوة.
سلطات صنعاء شددت على أن التهديد الحقيقي للملاحة الدولية ليس من عملياتها المساندة لشعب يتعرض للإبادة، وإنما من العدوان المتواصل على قطاع غزة. كما أكدت بشكل مباشر على استمرار عملياتها في البحر الأحمر وخليج عدن وفي العمق الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معتبرة أن أي محاولة لتقويض هذه العمليات بمثابة تصعيد يُقابل بتصعيد.
المخاطر الاستراتيجية لـ “المغامرة”
لم يعد المشهد الحالي الذي يدفع الرياض نحو التورط مجدداً مجرد تكرار للوضع في عام 2015، بل أصبح مشهداً متغيراً 180 درجة، وتحكمه ديناميكيات جديدة. لم تعد تحذيرات سلطات صنعاء متوقفة على التهديد بهجمات على منشآت حيوية أو عسكرية، بقدر ما صارت تشكل تحذيراً موضوعياً يفرض تهديداً استراتيجياً مباشراً للشرايين الاقتصادية الحيوية للمملكة، لا سيما في البحر الأحمر.
هذا التحول هو المحرك الرئيسي الذي يفترض أن يدفع بالنظام السعودي إلى إعادة النظر في خياراته، لا سيما وأن حماية “رؤية 2030” تحتل أولوية قصوى في قائمة استراتيجيات النظام السعودي، بل ولا قيمة لها مقارنة بما يطلب منه أمريكيا من تدخل في الشأن اليمني.
الاعتماد على واشنطن لم يعد حصناً آمناً، لاسيما وأن حادثة الهجوم الذي نفذه الكيان الاسرائيلي على قطر في 9 سبتمبر الجاري، تعد مثالاً استراتيجياً واضحاً على الطبيعة الحقيقية للعلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. إن هذا التناقض الظاهري يمكن فهمه من خلال منظور أن الولايات المتحدة لا تتعامل مع حلفائها كشركاء متكافئين، بل كأدوات لخدمة مصالحها الخاصة.
يرى بعض المحللين أن أمريكا ليست حليفاً لأحد، بل “سمسار” أو قوة “زعزعة استقرار” تسعى لترويع حلفائها والضغط عليهم لخدمة مصالحها.
في حالة قطر، سمحت واشنطن (أو غضت الطرف) عن هجوم إسرائيلي على أراضيها لتأديبها والضغط عليها للتخلي عن دعم حماس، بينما أكدت في الوقت نفسه أنها لا تزال بحاجة إليها كوسيط أساسي في المفاوضات. هذا السلوك يوضح أن العلاقات ليست مبنية على الولاء بل على المصالح المتبادلة المتقلبة، وهو ما يفرض على السعودية إعادة تقييم جدوى الاعتماد الكامل على واشنطن.
أما فيما تعتبره الرياض نفوذاً بالحليف المحلي، والمتمثل في ورقة الشرعية المزعومة، فلم تعد فاعلة. هذه الجبهة الموالية للسعودية وحلفائها، أصبحت غير فاعلة بسبب الغضب الشعبي المناهض لسياسات الاحتلال السعودي-الإماراتي المستغل صهيو-أمريكياً. مما يؤسس لواقع أصبحت فيه هذه الفصائل لا تمثل رقماً يمكن الاعتماد عليه، لاسيما وأنها تدير شؤونها من غرف الفنادق في الرياض والقاهرة وأبوظبي وعدم قدرتها على بناء حاضنة شعبية لها على طول وعرض المناطق التي تزعم سيطرتها عليها.
في المقابل، تتمتع سلطات صنعاء بنفوذ شعبي متزايد، يظهر جلياً في الحشود الجماهيرية الكبيرة التي تخرج أسبوعياً في مسيرات مؤيدة لموقفها الداعم لغزة. هذا الموقف يتسق مع بنية أسست لدولة ذات سيادة بسطت الأمن والاستقرار، وصنعت لقياداتها ومؤسساتها زخماً رسمياً وشعبياً، جعل من سلطات صنعاء قوة عسكرية متماسكة مسنودة بنكف قبلي تعبوي يفوض القيادة الثورية والسياسية تفويضاً مطلقاً باتخاذ كل ما شأنه الحفاظ على عزة وكرامة وسيادة اليمن من قرارات براً وبحراً وجواً. فضلاً عن التفويض الجماهيري الأسبوعي الثابت والمبدئي كواجب ديني وأخلاقي وإنساني، والمؤكد على استمرارية الموقف المساند للمقاومة الفلسطينية في غزة مهما بلغ حجم التحديات والتضحيات. هذا الثبات والتماسك هو ما تفتقده جبهات فرقاء “الشرعية” المزعومة التي يسودها الشتات، حتى وصل حد اندلاع الاشتباكات المسلحة فيما بينها.
صنعاء ترفع سقف تحذيراتها للرياض
يرتفع سقف التحذيرات من صنعاء تجاه الرياض، محذراً من مغبة التورط في أي “مغامرة” جديدة قد تهدد استقرار المنطقة وتعمق الأزمة. وفي هذا السياق، تؤكد سلطات صنعاء أن المسارات التي كانت تعتمد عليها الرياض في السابق، لم تعد مجدية أو قابلة للاستمرار، وأن الرهانات الخاطئة قد تؤدي إلى نتائج كارثية غير محسوبة، بل ويتأكد، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن أي تورط سعودي جديد في اليمن سيكون له تداعيات وجودية على “رؤية 2030” ومصالح المملكة ونفوذها في المنطقة.
لقد تحول التهديد من كونه تكتيكياً إلى استراتيجي، فضلاً عن تطور قدرات صنعاء العسكرية والتي بات بمقدورها ردع قوة الرياض وحلفائها الصهيو-امريكيين.
إن الدروس الرئيسية المستخلصة من الماضي واضحة: الاستراتيجية الأمنية التي أثبتت فشلها يجب استبدالها باستراتيجية دبلوماسية واقتصادية أكثر شمولاً. ينبغي على المملكة أن تعمل على تعزيز استقرار اليمن بتركها في حالها، كما نوه بذلك السيد الحوثي في تحذيراته المتكررة للنظام السعودية من مغبة التورط في اليمن مرة أخرى، ولم يغلق الباب أمام مسار بناء علاقات إقليمية على أساس المصالح المشتركة والاستقرار المتبادل، مؤكداً أن تحقيق الأمن على المدى الطويل يتطلب استقلالاً سعودياً استراتيجياً عن الحلفاء التقليديين وما يرافق من خيانات ومؤامرات لا تزيد الوضع في المنطقة إلا دماراً وسوء جوار لا يخدم سوى مصالح العدو الصهيو-امريكي، ووضع الحوار على المسار الندي بين صنعاء والرياض كأولوية قصوى لتجنب تكرار فشل الماضي والوصول إلى مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.